احتفل اليونسكو باليوم العالمي للرياضيات لأول مرة في 14 مارس 2020. ولأن الشيء بالشيء يُذكَر، لا تفوتنا هذه المناسبة دون أن نخرج من حيّز الرياضيات العظيم إلى حيّز الفقه الإسلامي!
* الرياضيات الترفيهية- حقل لا يعبأ بالواقع:
الرياضيات علم صُورِيّ Formal Science بمعنى أنها غير معنية بالبحث عن صحة نظرياتها من خلال ملاحظة العالم الواقعي، وإنما تنصبّ عنايتها على خواص الأنظمة الصُّورية التي تدرسها استنادًا إلى تعاريفها وقواعدها. رغم ذلك، لا يَخفَى علينا أنّ هذا العلم الأكثر تجريدًا بين العلوم يمثل قاعدة هرم العلوم من جهة رجوعها كلها إلى الرياضيات التطبيقية. لكن محض وجود الرياضيات البحتة Pure Mathematics غير المعنيّة بالتطبيقات – وإن كانت دائمًا تخضع لاحتمال أن يطالَها التطبيق في المستقبل – يجعل في الرياضيات قسمًا مكتفيًا ببرجِه العاجيّ متعاليًا على وقائع العالَم الملموسة. وفي الرياضيات حقلٌ آخر لا تعنيه التطبيقات كثيرًا، هو الرياضيات الترفيهية Recreational Mathematics التي تهتم بموضوعاتٍ مثل المربعات السحرية ومكعّب روبِك Rubik's Cube والألغاز الشطرنجية وغير ذلك. هو حقل لا يستعصي في بعض مستوياته الدنيا على من لم يتلقّوا تدريبًا متخصصًا في الرياضيات، لكن هناك دائمًا رياضيون من العيار الثقيل يَنبَرون لحلّ المشكلات الرياضية المتعلقة بموضوعات هذه الرياضيات الترفيهية، أو يثيرون فيها مشكلاتٍ جديدةً تتطلّب بحثًا عن حلول جديدة، دون أن يخطر ببالهم رَبط هذه المشكلات الرياضية بالواقع.
* الوظيفة المزدوجة للفقه:
يبدو الفقه في مكانٍ وسَطٍ بين الدِّين من حيث هو أوامر منزلة مقدسة وبين الدنيا من حيث هي مجالُ كل مُدنَّس (غير مقدَّس). يعمل الفقه على (تديين) كل مجالٍ من مجالات الدنيا، فالنظر إلى كل نشاطٍ من حيث موقفه من متسلسلة (الوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم) لا يصادر فقط تلك النشاطات التي تندرج في الوجوب أو الندب من جهةٍ أو الكراهة أو التحريم من الجهة الأخرى، وإنما محض النظر إلى نشاطٍ دنيويٍّ من منطلَق كونِه (مُباحًا) يربطه بالدِّين من حيث يَغفل كثيرون.
لكنَّ الفقهَ يعمل في الاتجاه المضادّ كذلك، بصِفَته استلابًا للمُقَدَّس والمُطلَق الدِّيني لصالح الممارسة الدنيوية. فوضع الضوابط أمام تنفيذ الحدود مثَلاً هو عملٌ فقهيٌّ من الدرجة الأولى، نَصَّ على أهميته أصلٌ مهمٌّ من السُّنّة نفسها، يتمثل في الحديث الشريف الذي رواه عبد الله بن عباس عن النبي: "ادرءوا الحُدود بالشبهات" (في مُسنَد أبي حنيفة للحارثي). وهكذا تتراكم حول الأمر القرآني المباشِر الواضح "والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديَهما" منظومةٌ مرتَّبَةٌ من الأحكام والشروط تعرف طريقَها رويدًا رويدًا إلى المدونة الفقهية، في بناءٍ عقليٍّ حضاريّ.
لكن هذا البناء العقلي الفقهي – شأنه شأن كل منتَج عقلي حضاري يتفاعل مع معطيات الواقع إيجابًا وسَلبًا – يُستغرق أحيانًا في شكل من أشكال اللذة المعرفية التي لا تسعى خلف أي نفع واقعي. هكذا يحدث في الرياضيات الترفيهية، وهكذا يحدث في مسائل الفقه الغريبة التي تبدو لنا بالغة الشطَط. هي منتَج حضاري في أصلها، حتى وإن بدت موضوعاتها للبعض محرضةً على رِدَّة حضارية، وذلك أنها محض إعمالٍ لآليات ومبادئ الاستنباط الفقهي في موضوعاتٍ متباينة الحظوظ من الخيال والافتراضية.
وحين يصِلنا خبر عن العز بن عبد السلام رحمة الله عليه وقد أُلقِي به في زنزانة ومعه أسد، فينشغل بالتفكير في مسألة فقهية عن لُعاب الأسد وهل ينقض الوضوء أو لا ينقضه، فسواءٌ صحّ الخبر أو لم يصِحّ، يبدو الأقرب للحِسّ المُشترَك أنّ هذا الانشغال اللحظيّ للفقيه العظيم ليس وليد أسطورة أو تزَيُّد، كما أنه ليس بالضرورة نابعًا من تقواه المعروفة، وإنما هو الهاجس الطبيعي الذي لا يستطيع صاحب الشغف المعرفي مقاومتَه، تمامًا كما يتذكر سينمائيٌّ مُخلِص أفلامَ الكوارث حين يتعرض لزلزال أو كارثة من أي نوع!
غير أنه من الشطّط كذلك أن نتّهم المدونة الفقهية الإسلامية كلها بالعبث والانصراف عن المصالح العامة وما يهم الناس بناءً على وجود هذه المسائل التي لا تشغل إلا هامشًا بسيطًا، بينما المتن يكتظّ بمناقشة هذه المصالح بشكلٍ واقعيٍّ، نتّفق ونختلف معه، لكن نظرةً متأنيةً في أي كتابٍ فقهيٍّ جامعٍ كفيلةٌ بتأكيد هذا المتن. وإن كان الهامش مهمًّا – كعادة الهوامش في كل الأبنية الحضارية – في إلقاء الضوء على تلك الوظيفة المزدوجة للفقه: تديين الدنيوي واستلاب المقدَّس.
أخيرًا، ربما يُقال إن الُهوّة بين الرياضيات والفقه بعيدة، فالأولى علم صوري كما أسلفنا القول، لا يعبأ بالواقع أصلاً، بينما الفقه أقرب في موضوعه إلى العلوم الاجتماعية فهو مغروس في تربة الواقع، ولذا جاز للرياضيات ما لا يجوز للفقه، وإذا انحرف الفقه عن مناقشة الواقع وقع في الشطّط. وهو اعتراض وجيه بالتأكيد، لكنه يفترض مثاليةً تكاد تكون مستحيلة في الفقيه الشغوف بحقله المعرفي. مثالية تتفق وما تكرسه أصول الفقه كما نجدها عند الشاطبي، لكن العقل لا ينصاع دائمًا لما تضعه الأصول من حدود. وربما يجوز لنا أن نثور لو وُجدت تلك المسائل الغريبة متناثرةً في متن المباحث الفقهية الجادّة الواقعية، أما إذا ضمّتها حواشٍ مخصوصة للمسائل الخيالية والافتراضية، بحيث توفّر معادلاً موضوعيًّا لتريُّض طالب الفقه – شأنها شأن الرياضيات الترفيهية – فحينئذٍ لا نرى داعيًا حقيقيًّا للثورة. ستكون مجرد رياضة ذهنية ذات طبيعة خاصّة!