إليزابيث الأولى (1533- 1603) هي ابنة آن بولين التي حملت بها بطريقة غير شرعية من الملك هنري الثامن.
ولعدم رغبته بمولود غير شرعي، أسرع هنري الثامن ـ كما ذكرنا في مقال سابق ـ إلى تطليق زوجته كاترينا أراغون بقرار كنسي إنكليزي محض بعيدا عن سلطة البابوية في روما، والزواج من آن بولين.
وقد رفض البابا عملية الطلاق واعتبرها حراما في وقت رفض الزواج الجديد، ولذلك نظر الكاثوليك إلى الملكة إليزابيث على اعتبارها ابنة غير شرعية بسبب عدم اعتراف كنيسة روما التي ينتمون إليها، بطلاق والدتها الأولى، في حين توسم البروتستانت فيها الخير على أمل إنهاء حروب أختها المتوفية (ماري الأولى) ضدهم.
وإذا كان والدها هنري الثامن قد وضع أسسا جديدة لعلاقة السياسي بالديني، فإن إليزابيث ستصبح أحد أعظم ملوك إنكلترا في العصر الحديث، وسيعاد في عهدها ترتيب البيت الديني ـ السياسي من جديد.
العودة إلى سياسة والدها
مع تسلم إليزابيث الملك بدأت مرحلة تراجع الكاثوليكية وتقدم البروتستانتية، إنها مرحلة دعم الإصلاح الديني البروتستانتي في بلد معظمه من الكاثوليك، فقد كان معظم القضاة والحكام ورجال الدين من الكاثوليك، فيما كان البروتستانت محصورين في المناطق الجنوبية والمدن الصناعية، باستثناء لندن، حيث كانت الغلبة لهم.
أعادت إليزابيث الأولى المبادئ التي وضعها والدها هنري الثامن، فأصبحت ترأس الكنيسة رسميا، وأعادت الصلاة في الكنائس باللغة الإنكليزية وأبقت على الطقوس البروتستانتية وعلى رأسها زواج القساوسة، وهو ما أدى إلى قيام البابا في روما بعزل الملكة كنسيا.
خطوات إليزابيث صعدت من روح البروتستانت، وبدأت مرحلة التناحر على مستوى النقاش الديني، وترتب على ذلك، أولا ازدياد نزعة الشك الديني لدى البعض، وازدياد التشنج في العقائد لدى البعض الآخر ثانيا، وتوجه البعض نحو الإلحاد ثالثا.
لا يتعلق الأمر بهوى اليزابيث بأفكار الإصلاح الديني فقط، بل كانت إليزابيث تشعر بتهديد إسبانيا وفرنسا الكاثوليكيتين، وكان لا بد من تدعيم أركان البروتستانتية في بلدها عقائديا وليس سياسيا، لأن البروتستانت، اللوثريين منهم أو الكالفينيين، يدعون إلى استقلال الكنائس عن سلطة البلاط، وهذا أمر غير مسموح التفكير فيه في إنكلترا.
غير أن هذه السياسة ساهمت في احتجاج كاثوليكي وفي احتجاج كالفيني طهراني متشدد، بالنسبة للكاثوليك، فقد رفضوا القبول بالعقيدة البروتستانتية، وبالنسبة للكالفينيين الطهوريين، فقد رفضوا هيمنة الدولة على الكنائس.
ولقد كان للكالفينيين الطهوريين تأثير سياسي خطير، فقد انتشرت الطهرية بشكل خاص لدى برجوازية المدن وصغار النبلاء في الريف، أي لدى الطبقات التي ينتمي إليها النواب في مجلس العموم، وكانت قوة دينية اتجهت لتصبح قوة سياسية معارضة للملكية.
ولأن البلاد تقطنها أغلبية كاثوليكية، خشيت اليزابيت من انفجار الوضع والانحدار نحو حرب أهلية مع ازدياد حركة الإصلاح الديني قوة بتأثير الكالفينية الطهورية.
ووجدت إليزابيث مدافعا قويا لسياستها في اللاهوتي ريتشارد هوكر الذي نشر عام 1594 كتابا بعنوان قوانين السياسية الكنسية، سعى فيه إلى إثبات أن الطهريين برفضهم لقوانين الكنيسة الرسمية، اتخذوا موقفا من المتعذر الدفاع عنه، لأنه يعني رفض كل التزام سياسي.
ويؤكد هوكر مدعوما من البلاط، أن خيار الطهريين ضد التسلسل الأنغليكاني، ولصالح الدعوة الكالفينية على الطريقة الاسكتلندية (جون نوكس) يشكل جزء من الأشياء غير المهمة.
شكل كتاب هوكر ارتياحا عاما لدى كل الفئات بسبب فصاحة وبيان اللغة التي استخدمها في الكتاب، ورزانة ووقار الحجج التي اعتمدها، وكان الكتاب بمثابة المانفيستو الذي يدعو إلى التوفيق بين المذاهب الدينية، مع التشديد على سمو الملكة وهيمنتها على الدين.
التسوية الدينية
اضطرت الملكة إلى إجراء تسوية بين الكاثوليكية والكالفينية شبيهة بتسوية والدها، لكن هذه المرة كانت على مستوى العقيدة، عبر إلغائها خمسة من الأسرار المقدسة السبعة وإبقائها على سرين اثنين هما العماد والعشاء السري، واعتبار الكتاب المقدس السلطة الوحيدة فيما يتعلق بالإيمان.
إنه الميل الدائم للحلول الوسط الذي يتجلى مجددا على مستوى الدين، حيث تم الاعتراف بالخطيئة الأولى وبحرية الإرادة وفق مجمع ترانت الكاثوليكي، في حين تم قبول التبرئة بواسطة الإيمان فقط دون الأعمال، البند الرئيسي عند لوثر، أما القدرية الكالفينية (القضاء والقدر) فقد تم استبعادها نهائيا، لصالح الأرمينية التي تركز على سيادة البشر في الخلاص.
وهكذا فيما كانت الأنجليكانية راديكالية على مستوى الولاء السياسي، كانت ليبرالية على مستوى العقيدة، وبهذا استطاعت الكنيسة الأنجليكانية تحييد الرؤية الكالفينية لنظام سياسي ثوري.
وقد ترتب على الراديكالية السياسية تحول تدريجي للكنيسة أو الكنائس الإنكليزية إلى كنائس وطنية، ولائها الأول والأخير لإنكلترا، فيما ترتب على الليبرالية الدينية انتشار واسع لفرق دينية ساهمت بدور كبير في الحياة العامة.
لكن هذه الحلول كانت بحاجة إلى انتظام قانوني، وفعلا انتظمت العقيدة الجديدة ضمن 39 بندا وصدر قرار من البرلمان فيها عام 1566، وحرم من حماية القانون طائفة الموحدين (الذين يقولون بالتوحيد لا التثليث) والقائلين بإعادة تعميد البالغين، وأعدم أثناء حكم الملكة خمسة من الهراطقة، وهذا رقم قليل جدا بمقاييس ذلك الزمن.
يقول جان جاك شوفالييه إن الكنيسة والدولة في الأمة الإنكليزية لهما نفس الأعضاء، وهما متطابقان بشكل أساسي، والدولة لديها إذن السلطة لربط ضمائر أعضائها المؤمنين، وأن القوانين الكنسية التي يضعها البرلمان في ظل سمو الملك، هي إلزامية تماما ولنفس الأسباب، مثل كل القوانين الأخرى، وأن عدم طاعتها يعني نسف كل نظام اجتماعي.
التحديات الخارجية
لم يقتصر الصراع الكاثوليكي ـ البروتستاني على الصعيد المحلي فحسب، بل أيضا على الصعيد الخارجي.
كانت إسبانيا أكبر معاقل الكاثوليكية في أوروبا وهي القلعة القوية في مواجهة المد البروتستانتي القادم من إنكلترا.
بدأت إسبانيا الحرب على إنكلترا مستخدمة أسطولها البحري الكبير الذي عرف بالأرمادا لشن هجوم على الشواطئ الإنكليزية بهدف عزل الملكة إليزابيث وتعيين ابنها فيليب الثاني مكانها.
كانت قوة إنكلترا من جهة والعواصف من جهة ثانية، سببا في خسارة إسبانيا للحرب، وقد شكلت هذه الخسارة تراجعا حادا لإسبانيا على المستوى الإقليمي، وتزايدا في قوة إنكلترا.
لم تكتف إليزابيث بهذا النصر، بل قامت بخطوة إلى الأمام، فدعمت ثورة البروتستانت في هولندا ضد إسبانيا وأرسلت حملة للتصدي للإسبان في البحر الكاريبي.
في تلك الفترة كان ملك إسبانيا فيليب الثاني متزوجا من ماري ستيوارت ابنة الملك الأسكتلندي جيمس الخامس، وكانت في نفس الوقت ابنة أخت الملك هنري الثامن ملك إنكلترا، والد ماري وإليزابيث.
وكان هنري الثامن قد استغل وفاة الملك جيمس الخامس ليقيم اتحادا بين إنكلترا وأسكتلندا بتوقيع "معاهدة غرينتش" عام 1543 حين كانت ماري تبلغ من العمر ستة أشهر فقط.
وتنص المعاهدة على زواج ماري من ولي عهد إنكلترا إدوارد حينما تبلغ سن العاشرة، ولكن هذه المعاهدة لم تستمر بسبب رغبة هنري الثامن قطع علاقة أسكتلندا بفرنسا مما دفع البرلمان الأسكتلندي إلى رفض المعاهدة ورفض الزواج.
اندلعت الحرب بين إنكلترا وأسكتلندا، فلجأت ماري إلى فرنسا طلبا للمساعدة، ووافق الملك الفرنسي هنري الثاني على تقديم المساعدة شرط أن تتزوج ماري من دوفين فرنسا فرانسوا البالغ من العمر ثلاث سنوات، وهكذا ساعدت فرنسا أسكتلندا واستعادت الأخيرة معظم الأراضي التي احتلها الإنكليز.
قامت الملكة إليزابيث بتحييد فرنسا لاحقا من خلال معاهدة أدنبرة، كما قامت بالتخلص من ماري ستيوارت ملكة اسكتلندا المطالبة بعرش إنكلترا لنفسها، فأُلقي القبض عليها بتهمة المشاركة بالتخطيط لاغتيال إليزابيث وسجنت عشرين عاما قبل أن تُعدم عام 1587.
المسلمون
منذ اعتلائها العرش، أدركت إليزابيث بذكائها أنها بحاجة إلى توسيع دائرة علاقاتها السياسية والاقتصادية إلى أبعد من حدود القارة الأوروبية، فإنكلترا البروتستانتية كانت آنذاك محاطة بعدوين كاثوليكيين قويين (فرنسا، إسبانيا).
وجدت إليزابيث في المغرب العربي والسلطنة العثمانية التي كانت في صعود ضالتها، وفعلا توطدت العلاقات السياسية ـ الاقتصادية بينهم، وأثر ذلك بشكل إيجابي على الاقتصاد الإنكليزي في مواجهة فرنسا وإسبانيا.
ولعبت إليزابيث على العداء بين المسلمين والكاثوليك، فنبهت الحكام المسلمين إلى تشاركهما في عداوة الكاثوليك، وألمحت في رسائلها إلى أن البروتستانتية تتوافق مع الإسلام في تحريم الرموز والوساطة بين الإنسان والله.