يمكن القول إن رواية “موت صغير” للكاتب السعودي محمد حسن علوان تمثل تحولا في مسار الرواية التاريخية العربية، وخاصة على صعيد تمكنها من تتبع المسار الإنساني لسيرة شخصية فكرية إسلامية عبقرية هو محيي الدين بن عربي (1165-1240م) ومعالجتها تلك السيرة بسردية استطاعت أن تستوعب الزمان والمكان بتاريخه وثقافته في سياق عمل أدبي ضخم لم يفقد، مع ما شهده من احتشاد حكائي تاريخي، روحه الفنية.
لم تول الرواية أفكار ابن عربي الجدلية اهتماما محوريا بقدر اشتغالها على حياته الإنسانية وتجربته الصوفية، وتقديم البيئة التي شكلت شخصيته والخلفية التي أسندت رؤيته، وتمكين القارئ من تتبع المراحل التي عاشها وتنقل فيها بين عدد من البلدان والمُدن في (رحلة التطهُر) وفق التعبير الصوفي، وما عاشه من معاناة في كل مرحلة، وهو ما تميز به الكاتب، مستعينا بخياله الخصب ولغته المشعة، والتي ساعدته على السرد والوصف والغوص عميقا.
وقد يتساءل القارئ، وهو يقرأ، مستغربا: كيف استطاع الكاتب استيعاب سيرة هذه الشخصية والتصدي لها روائيا؟ وفي سياق ذلك: كيف استطاع تخيل يوميات وعوالم تلك الحيوات؟ والأهم؛ هو كيف استطاع ترجمة كل تلك التاريخية في نص أدبي مفعم بالجمالية والفنية؟
وبموازاة سيرة الرجل يمكن القول إن الكاتب تعامل، أيضا، بذكاء مع مرحلة من تاريخ الحضارة العربية والإسلامية تعرضت فيها “نزعتها العقلية” للمصادرة.
انطلاقا مما سبق فإن قراءة هذه الرواية والتي تقترب صفحاتها من الستمئة، تصبح مهمة يسيرة وماتعة، يتنقل فيها القارئ بين أحد عشر بابا/سِفرا، وفيها تَعبْر القراءة مئة فصل. ويُنهي الكاتب كل سِفر بفصل خاص يتعلق بمسار نسخ وانتقال مخطوطات ابن عربي، بين المُدن والبلدان. بمعنى أن القارئ ينتقل بين مسارين سرديين متوازيين، منفصلين ومرتبطين، ضمن عمل روائي واحد يقدم صورة لما كان يعيشه المفكر وما كانت تعانيه الفكرة في مرحلة تاريخية كانت فيها الأمة العربية الإسلامية تلج حينها فيما عُرفت بقرون الانحطاط.
استمد الكاتب عنوان روايته من إحدى مقولات ابن عربي “الحب موت صغير” وهي مقولة مستهل أحد فصول الرواية. ويكاد العنوان يختزل مضمون الرواية، التي تتناول سيرة الرجل مع الحب على صعيد صلته بالذات الإلهية من جهة وصلته بالذات الإنسانية من جهة أخرى ضمن رحلة تطهير القلب الصوفية، وما يقتضيه هذا النوع من الحب من مشقة ومكابدة يصبح معها الحب كأنه موت صغير.
البناء
على الرغم من التزام الرواية سيرة حياة شخصيتها؛ وهو ما حشد له الكاتب العديد من الحكايات والوقائع والأحداث يسافر معها القارئ عبر أمكنة وحقب وأزمنة عديدة، إلا أن التاريخ لم يطغ على روح الأدب؛ فتجلى الأدب التاريخي مفعما بجمال السرد وعبق الكشف الوجداني في رحلة الارتقاء في الحب، والتي مضى فيها ابن عربي بهدف نيل الفتح (الكشف) الصوفي، وهو ما برز فيه الكاتب بارعا في التخيل والوصف، متميزا في نسج وصوغ كل ذلك السرد المتعدد والمتداخل ضمن سبيكة سردية متماسكة لم يتخللها، بشكل واضح، ما يُضعـِف ويُخِل.
في بنائها السردي نسج الكاتب روايته ملتزما مسار الحدث الصاعد في نسق دائري، حيث ظهر الراوي، الذي هو نفسه ابن عربي، في مدينة ملطية في أذربيجان، حيث استهلت الرواية بمحطته الأخيرة، وهناك بدأ، وفق هذا البناء، بكتابة سيرته، والتي انطلق منها الكاتب إلى “السِفر الأول” في الرواية، بدءا من حياته طفلا في مدينة مرسيه في الأندلس، ومحاصرة الموحدين لها، ومن ثم خروجه منها مع عائلته إلى أشبيلية التي عاش فيها شبابه، وبدأ هناك رحلته مع التصوف والبحث عن الأوتاد الأربعة، وتلقي العلم وصولا إلى التعليم والتعلم في آن؛ وهي الرحلة التي انتقل فيها من أشبيلية إلى المغرب العربي، من خلال فاس ومراكش وغيرها من مُدن المغرب، وصولا إلى تلمسان، وغيرها من المُدن التي كان يسافر إليها طلبا للعلوم والفتوح والبحث عن (الأوتاد) وصولا إلى القاهرة ومكة ومن ثم دمشق ومُدن الشام وعودة إلى مصر التي تعرض فيها بسبب أفكاره للسجن ومنها إلى بغداد وعودة إلى الشام…الخ. وعلى الرغم من تعدد وتداخل الأحداث وتمددها، بقي الكاتب ممسكا بخيوط دراما الأحداث، وإن كان السرد يفقد وهجه ويخفت بريقه أحيانا؛ إلا أن السارد كان سرعان ما يعود ويمنح السرد روحه ويمضي مفعما بجماليته وشاعريته. بمعنى أن السارد بقي واعيا لروح ودراما الحدث حريصا على إبقاء جذوته الأدبية والفنية مشتعلة بمستويات متفاوتة
في خطابها السردي جاءت الرواية متكئة على لغة اقترب فيها الكاتب من لغة العصر الذي عاشه ابن عربي وثقافة التصوف التي كانت جزءا من حياته، كما تمتعت اللغة بشاعرية واعية بثقافة القارئ العادي في العصر الراهن، وبالتالي جاءت بمستوى عزز من جمالية السرد في علاقته بالماضي واستهدافه للحاضر.
كما تميز الخطاب بروح سردية تمازج فيها الوعي الصوفي بالوعي المكاني والتاريخي والإنساني؛ فجاء الخطاب الثقافي بمستوى السردي، كما جاءت اللغة بمستوى الخطابين السردي والثقافي؛ فتوازن السرد التاريخي مع المتعة الأدبية والقيمة الجمالية في هذا العمل.
لقد اعتنى الكاتب عناية فائقة بكل جزئية في الرواية بما فيها أجواء أحداثها وتوصيف الحالات الوجدانية والانفعالية والنفسية والروحية لشخوصها. وبقدر اهتمامه بمحاور حياة ابن عربي فقد أطلق العنان لخياله في التعامل مع التفاصيل في حياته، وفي حيوات المجتمعات التي عاش فيها وتعايش معها. فعلى سبيل المثال لم تهمل الرواية التاريخ السياسي لكل مرحلة عاش فيها ابن عربي وكذلك التاريخ الاجتماعي والثقافي والفلسفي، حتى على صعيد تاريخ المكان فأطّلعنا من خلال الرواية مثلا على تاريخ مجتمع الأندلس في حقبة معينة، وكذلك المجتمع في المغرب العربي، وفي غيرها من المحطات التي توقف فيها ابن عربي. ما نفهمه أن الكاتب أعطى كل شيء حقه في الرواية وبذل جهودا مضنية في نسج بنائها وخطابها.
الشخوص
في علاقتها بالشخوص استوعبت الرواية حكايات وشخوصا كثيرة ممن ارتبطوا بحياة ابن عربي بدءا من والده ووالدته وشقيقتيه وأصدقائه في أشبيلية، وخاصة الحريري والخياط وتنقله بين جلسات العلم وتلقيه الدروس من عدد من علماء عصره، وعلاقته بالشيخ زاهر الاصفهاني وابنته نظام، وما تسبب به كتابه “ترجمان الأشواق” من معاناة اجتماعية لعائلة الأصفهاني؛ ما أضطر الأخير لمغادرة مكة ليجد ابن عربي نفسه فجأة، خلال إقامته في بغداد، يسير في جنازة صاحبه وأحد معلميه (الاصفهاني)؛ ليتجه بعد ذلك بحثا عن ابنته، وعندما التقاها أخبرته أنها لا تستطيع الزواج منه لأنها وتده الثالث؛ وطلبت منه مغادرة بغداد للقاء وتده الرابع في ملطية، والذي من خلاله هناك ستنتهي سيرته في تلقي (فتوح العلوم).
في رسمه للشخوص كان الكاتب مدهشا في منح كل شخصية ما تستحق من وصف ووعي، وما تستدعيه مكانتها وفق مقتضيات عالم التصوف، وهنا يمكن الإشارة إلى شخصيتي بدر وسودكين وهو الذي انضم لخدمة ابن عربي وصحبه مع بدر في معظم رحلاته بعد خادمه سلوم الذي صحبه منذ طفولته حتى عاد بصحبة زوجة ابن عربي، عندما قررت العودة من مكة إلى بجاية عقب وفاة ابنتهما زينب خلال رحلتها إلى مكة، حتى أن القارئ يشعر وكأنه يعرف بدر وسودكين جيدا بملامحهما وطريقة كلامهما ومستوى تصوف كل منهما بل يجد القارئ نفسه جزءا من الحدث متعاطفا معهما.
لم يمض السرد في مستوى واحد من الحيوية، ذلك أنه في النصف الأول من الرواية، وتحديدا خلال إقامة ابن عربي في الأندلس والمغرب، كان السرد هادئا ورتيبا؛ ولعله استغرق برتابته تلك ثلث إن لم نقل نصف الرواية؛ ليأتي النصف الثاني بحيوية متدفقة، وتحديدا منذ إقامة ابن عربي في مكة وتنقله منها إلى مُدن وعوالم لم يستقر للرجل فيها حال؛ فذاق من مرارات السفر والترحال الكثير، حيث قضى معظم حياته في خوانق المتصوفة في كل مدينة كان ينزل فيها، معتمدا على معيشة تلك الخوانق وما كان يتحصل عليه من عطاء مقابل دروسه في الحلقات التي يقيمها.
ما يمكن قوله، أيضا، إن القارئ بعد قراءة الرواية، سينتهي بانطباع إيجابي عن شخصيتها؛ وهو انطباع قد يزيل أي سوء فهم سابق لديه عنها، وإن لم تهتم الرواية، كثيرا، بنتاجها الفكري لكنها استطاعت أن تخلق لدى القارئ وعيا يصبح، من خلاله، قادرا على أن يتلقى، بشكل أفضل، فكر وفلسفة هذا الرجل. فالرواية تتيح الاقتراب من عالم التصوف وما يقتضيه فهم أفكار ونتاجات أعلامه من ناحية ومن ناحية أخرى تعطي صورة لما كانت عليه الثقافة والحضارة العربية الإسلامية في عصر احترام العقل وإتاحة الانفتاح وتمكين التجديد، وما تعرضت له هذه الحضارة من نكوص عندما انغلقت على نفسها وخاصمت العقل.
محمد حسن علوان:
(موت صغير)