ينقسم مُشاهدو الأفلام في هذه الأيام الغير عاديّة التي يعيشها العالم كله إلى قسمين، فريق منهم يفضلّون مشاهدة الأفلام التي تجعلهم في حالة مزاجية جيدة، كأفلام الرومانسية والكوميديا، وغيرها من الأفلام الخفيفة المحتوى، لكونها تبعث شعورًا عامًا في النفس بالارتياح والبهجة، بدون أية دراما أو تعقيدات، وهي الأفلام التي نطلق عليها مصطلح Feel Good Movies.
أمّا الفريق الآخر فيُفضّل أن يُشاهد أفلامًا تُحفزّ هرمون الأدرينالين بداخلهم، كأفلام التشويق والرعب والجريمة، وأفلام مجتمعات الدستوبيا Dystopia، كفيلمنا الذي نتحدث عنه في هذا المقال، وهي الأفلام التي تعرض واقعًا مُختَلَقًا شديد القسوة، أو كما يُقال عنه مجتمع المدينة الفاسدة، وربما تظنّ أنّه من الغريب أن يشعر شخصًا بالراحة بعد مُشاهدة هذه النوعية من الأفلام، ولكنّ هذا الأمر يحدث ببساطة، لأنّه حينها يُوقن المشاهد بأنّ مهما بلغ واقعه من صعوبة، فهو حتمًا ليس بهذا السوء الذي رآه وعايشه طوال فترة الفيلم، وحينها يشعر بالرضا والارتياح.
سنتحدث في هذ المقال بدون حرق لأية أحداث، عن الفيلم الأسباني The Platform وهو ما يعني المنصّة، كما هو عنوانه بالإنجليزية، والحُفرة، كما هو عنوانه بالأسبانية، وهو الفيلم الذي وصل لمشاهدات عالية جدًا على شبكة نتفليكس، بعد صدوره حديثًا في 20 مارس الماضي.
The Platform..قصة خيالية أم واقع مرير ؟
يلعب الفيلم الأسباني The platform على فكرة خوف الانسان الأعظم على الإطلاق، وهو خوفه من فقدانه للحياة، وعلى غريزته الأولى التي فُطر عليها، وهي غريزة البقاء، ويُرينا مالذي يُمكن أن يصل إليه الإنسان، في سبيل دفع هذا الخوف عنه، وضمان بقائه على قيد الحياة.
الفيلم في مجمله أعمق من القصة الخيالية الغارقة في عالم الدستوبيا، فهو في الحقيقة رمز واستعارة واضحة للحكومات الدكتاتورية التي لا تعبأ بشعبها من ناحية، ولعموم الناس من ناحية أخرى، حيث يطغى عليهم الجهل والطمع، والكره الشديد لمن يعلوهم منزلة، والاحتقار الواضح لمن هم أقل منهم حظًا.
يبدأ الفيلم من داخل مكانٍ افتراضي أشبه بالسجن، يُقاد إليه الخارجين عن العدالة، وبعض المتطوعين أيضًا الذين يقومون بمقابلة شخصية مع مسئولي المكان، يتم الاتفاق فيها على قبولهم هناك لفترة مُحددة، وبمقابل مُحدّد، غالبًا ما يكون شيئًا يُريده المتطوّع بشدة، كما هو الحال مع بطل الفيلم غورينج، الذي اختار بمحض إرادته أن يدخل في هذا السجن من أجل أن يحصل على دبلومة هامة، وفي نفس الوقت كي يُقلع عن التدخين.
في هذا السجن العمودي، الذي هو عبارة عن حجرات يقع بعضها فوق بعض، مفتوحة أرضها من المنتصف، في كل حجرة سجينين لا غير، حيث تهبط فيها يوميًا بشكل ميكانيكي منصّة كبيرة والتي تُشبه مائدة فاخرة، عليها أشهى المأكولات والمشروبات والحلويات أيضًا، والتي نرى في الدقائق الأولى من الفيلم أنّ إعدادها يتم بعناية فائقة. تستقر هذه المنصّة بداخل الفراغ المماثل لحجمها تمامًا على أرضية الغرفة لفترة بسيطة من الزمن، تهبط بعدها هذه المائدة للحجرة التي بالأسفل، لِتُكرّر نفس الخطوات السابقة بالضبط.
حاول أن تتخيل معنا، كيف سيكون الأمر، لو مرّت هذه المنصّة على 10 أدوار، أي 20 فردًا، كُلهم يمدّون أيديهم ليأكلوا من على المنصّة ما تطوله أيديهم، وبسرعة بالغة قبل أن تُطَلق الصافرة التي تهبط بعدها المنصّة للدور السُفلي، هل استطعت أن تتخيل حال هذه المائدة الآن؟ فما بالك لو كان عدد الأدوار التي تمرّ عليها منصّة الطعام هذه، أكثر من هذا العدد بكثير؟ هل يُمكنك أن تتخيل شكل الحياة في الأدوار السُفلية؟
هذه هي قصة الفيلم الذي ربما كان سينتهي في خلال دقائق، لو كان قد اكتفى كل فرد من سجناء هذه الأدوار بأكل ما يكفيه فحسب، أو أقل بقليل، تاركًا لغيره ما يكفي من الطعام، في شكل مُمنق وجميل.
فيلم The Platform .. حيث لا رحمةٍ للضعفاء
بعدما عرفنا معًا نبذة عن قصة الفيلم، فيُمكننا أن نتصور مضمونه أو فكرته الأساسية، وهي نفس القصة الأزلية، عن الصراع بين طبقات المجتمع العليا والسفلى، فبينما تعيش طبقات المجتمع العُليا في بذخ ورفاهية لا محدودين، تتكالب الطبقات السفلى على الفُتات، هذا إن وُجد أصلًا، ولاحظ معي في الفيلم، أنّ حتى ما يتبقى من الطعام، فهو في النهاية بقايا طعام، تم الأكل منه، والعبث فيه، وربما ما هو أسوأ أيضًا كما سيرى من سيُشاهد في الفيلم.
بطلنا هو غروينج، القارئ الذكي، الذي دخل هذا السجن ساذجًا، وجاهلًا بما قد يفعله البشر ببعضهم حينما يدخلون في صراع البقاء الدامي، تأمل معي هذا المشهد الرائع في بداية الفيلم، حينما يُدرك غروينج أنّ من هم بالأسفل لا يعبأون البتة بمن أسفل منهم، حينما تقع منصّة الطعام تحت أيديهم، فيحاول إقناعهم بأن يتركوا لغيرهم القليل من الطعام بدون عبث، فيرفضون في حدة، وحينها يقوم زميل غروينج العجوز في الغرفة، بالتبوّل عليهم، فيخبره غروينج بأنّ يتوقف، فربما تنعكس الأدوار ويصبح الذي بالأسفل بالأعلى لاحقًا، فيُخبره العجوز في ثقة، بأنّهم بالتأكيد كانوا سيتبوّلوا عليهم أيضًا.
في رأي العجوز أنّ هذا هو حال كل من لديه سلطة على الآخر، وهو نفس المصير الذي سيسري على من لديه سلطة لو تبادلت الأدوار من قبل من كان يحكمه، ليس من باب الانتقام أو العدل، وإنما هو شيء أشبه بالغريزة، التي تدفع كل ذو نفوذ، لأن يطأ بقدمه كل من هو أضعف منه.
في الحقيقة قمت باقتباس عنوان المقال من مقال آخر على موقع Forbes، لأنّني رأيت أنّه يتماشى مع الوضع الحالي بدرجة كبيرة، وهي التأمل في فكرة ما بعد الكارثة وتفشّي الوباء، واندفاع الكثيرين نحو الحصول على كل ما يُمكنهم الحصول عليه من طعام وأدوية ومستلزمات طبيّة، بغض النظر عن احتياج الآخرين لنفس الأشياء. وهو الشيء الذي نعيشه حاليًا في هذه الفترة، حيث يُمكننا أن نرى الصراع على البقاء في صور بسيطة، تشتدّ كلما تأزّمت الأمور أكثر فأكثر.
عن فيلم The Platform على شبكة نتفليكس
قام بكتابة قصة الفيلم الكاتب ديفيد ديسولا، الذي اشترك مع بيدرو ريفيرو في كتابة سيناريو الفيلم، أمّا المخرج فالمفاجأة أنّ The Platform هو أول فيلم طويل يقوم بإخراجه المخرج الموهوب غالدير غاستيلو أوروتيا، الذي توقّع الكثير من النّقاد أن يكون له مستقبل باهر.
الأداء التمثيلي بالفيلم مُقنع للغاية، والنص المكتوب مُمتع جدًا لمن يتعمق في ما وراء الكلمات، والفيلم نفسه يحمل الكثير من التشويق، الذي لا يترك المُشاهد يشعر بالملل أبدًا. تتوالى الأحداث في سرعة وصولًا إلى النهاية التي رآها الكثيرون غامضة وتحتاج إلى توضيح، ولو أنّ الأمر سيُصبح أكثر سهولة حينما تتم مشاهدة الفيلم مرة ثانية بتركيز أكبر.
ينتمي فيلم The Platform لفئة أفلام الخيال العلمي والرعب والإثارة، لذا فالفيلم لا يُنصح به لذوي المشاعر المٌرهفة، أو ذوي المعدة الحسّاسة، ففي الحقيقة هناك الكثير من المشاهد الصعبة التي تدعو للتقزز.
حصل الفيلم على إشادات نقدية إيجابية كثيرة، وصرّح البعض منهم بأنّه سيكون من أفضل أفلام الرعب في عامنا الحالي، وقيّمه النّقاد على موقع Rotten Tomatoes بدرجة 84%.
في النهاية، بقى أن نقول أنّ الفيلم أثار العديد من المخاوف في نفوس من شاهدوه، كالخوف من العزلة ومن الأماكن المغلقة. كما أنّ الفيلم من الأفلام التي لا تترك المشاهد بعد أن ينتهي منها، فبطبيعة الحال لابد وأن يفكر فيما سيفعله لو كان محتجزًا داخل هذا السجن ووجد نفسه في الطابق 150 مثلًا، مالذي قد يقوم يفعله من أجل الحصول على الطعام؟ وماذا لو وجد نفسه بعدها في الطابق الثالث مثلًا؟ هل سينقض في شراهة على الطعام غير عابيء بمن هم أسفل منه؟ هل يصير الضحية جلادًا بمعنى أصح؟ كلها أسئلة محيرة وصعبة، يضعك أمامها الفيلم الأسباني الجدير بالمشاهدة The Platform، أتمنى أن تراه عزيزي القاريء وتحاول الإجابة على هذه الأسئلة بنفسك.
سارة يوسف - اراجيك