رافقت الأهزوجة الإنسان منذ ان أصبح الوعي دربا جديدا في الحياة الاجتماعية والطبقية والسياسية وبات المهوال يحتل الصدارة في الميادين والتظاهرات والاحتجاجات والانتفاضات الشعبية والمهرجانات الشعرية والجماهيرية، وتغنى الشعراء المهاويل وهم يهزجون بالهوسات المعبئة برصاص الكلمة النابعة من القلب المفعم بحب الوطن والناس..
وفي ثورة العشرين الباسلة، كان الاستقطاب واضحا بين رجال الثورة. اما الذين آثروا منافعهم ومصالحهم الذاتية فقد كانوا في الصف المعادي للثورة، وبذلك حصل الانقسام، فكان إيذانا ببدء مرحلة من التخاذل، وما صاحبها من مواقف للبعض. فكان المهوال صريحا واضحا.. لا يداهن ولا يسكت على باطل يراه بأم عينه.
الگفت بالعش مامونه
وكان المهاويل وهم يرتجزون الاهازيج في الاحتفالات والمناسبات المختلفة، إنما يعبرون عن قيم واعتبارات تعيش في نفوسهم المفعمة بالرجولة والمترعة بالمفردات الكامنة في أحاسيسهم ومشاعرهم وقلوبهم.
وقد لعبت الاهازيج او ما يطلق عليها الهوسات دورا مؤثرا وحافلا. وكانت الاهزوجة الوطنية بشكل خاص قد حظيت بإهتمام لافت، وكان لها دور واسع في الشارع العراقي، وعلى طول فترات النضال السياسي والاجتماعي والطبقي ايضا، وفي تاريخ العراق الحديث بشكل خاص.
وقد شهدت الانتفاضات الشعبية في الاعوام 1948، 1952 و1956 ضد الاحلاف العسكرية والاتفاقيات الجائرة، التي احتضنها الشارع العراقي وبقيادة الحركة الوطنية آنذاك، خاصة الحزب الشيوعي العراقي الذي واكب الحركة الوطنية منذ بواكير القرن الماضي، شهدت مدا شعبيا تقدمته الاهازيج وهي تصدح بحب الشعب والوطن:
عله ازمور التفگ وقعنه صك الموت
وموش عله الرچيچه عله السمان انفوت
برموده بحرنه الما يچهبه الحوت
بني احچيم وفعلنه مطرز ومنحوت
احنه الفاله البلعشرين.. انشد والغير ايگلك
وكانت الاهزوجة عامل قوة وتحشيد واندفاع، حيث تشاهد الجموع وهي تستقبل الاهازيج بعنفوان مرهف، وتتفاعل معها.
وفي بعض فترات النضال وحينما تشتد سياط القمع.. وتقمع التظاهرات بقوة الحديد والنار، ويتساقط الشهداء فترفعهم اكف الرجال، كما يتساقط البعض من اصحاب المصالح والمتزلفين، وقد يقودهم هذا السقوط الى الحضيض، حيث يختبئون في زوايا ميتة... ويحتضنهم الحكم ليكونوا أبواقا لسلطانه وسيوفا لصولجانه.
فكوله الجنطة وهز ذيله
وهكذا سمعنا المهوال وهو يهزج معبرا عن سقوط الصنم، وكيف هرب الطاغية مختبئا في حفرة:
الديچ الچان يعوعي.. صار ادجيجة وگففناه
وهذه صيحة واثقة من شاعر تلمس ما تعانيه الحركة الشعبية في ثورة العشرين من مواقف مهزوزة، أدت بالبعض لأن يختبئ او يداهن، او يسيل لعابه امام الدولار والجنيه:
يمنادي الشعب لباك من ناديت
ذبحت اهل الفرات اعليك ما بگيت
سويتك حكومة اوسلميتك بيت
اشلون تسلم البيت لمطرة ومطرة اتصاوغ بيه
وما زالت الاهزوجة تمارس دورها بشكل ملفت للنظر. فهي ما زالت محافظة على تألقها ودورها في حشد الجموع ورص الصفوف وكشف الفساد :
شلون تقلد حيدر وانت البايگ بيت المال
او كما هزج الشاعر زهير هادي الرميثي:
تحرم الينتمي للفلح والعمال
وتشرع للحرامي يبوگ بيت المال
اذن هاي الفتاوي اقوال موش افعال
اشلون تجاور حيد ر وانته الناهب بيت المال
وقال احدهم وهو يؤكد رسوخ قدم الحزب الشيوعي العراقي وتصدره نضالات شعبنا منذ ثلاثينيات القرن الماضي:
وحزبك بيرغ عالي... ثابت يلعب بالميدان
او كما قال المهوال في زمن الديكتاتورية، وعندما نصبت السلطة شيوخا يخدمون مصالحها، ويعملون عيونا لها في الدواوين والمضايف وعلى ابناء جلدتهم وابناء عمومتهم:
عمي شيوخ الاول زين كواكين
عدهم خوفة الله وناس عدهم دين
بس الساتر الله من الفگع بعدين
عشر وجوه عنده ونرضى لو وجهين...
الشيخ الجانه مزور.. لا فسفورة ولا خط بيه
وعندما يقف المهوال امام الإقطاعي الذي الهب ظهره بسياط الجوع والظلم، فأن الكلمات لا تكفي وحدها، بل لا بد من وضع الامور في نصابها الصحيح. وهكذا وقف المهوال وهو ملتهب حماسا ومنتفض مشاعرا وإحساسا:
عله الله والعلى الله بضاعة المسكين
بشواربنه وتفگنه لأمرك مطيعين
تطالبني على حگي وآنه اطلبك دين
لازم يصدف يوم الدنيا تحول الراكب
وهذا هو منتهى الحس الطبقي، وهو تحول واضح في وظيفة الاهزوجة، فقد باتت موشومة بمفردات تنطق بالوعي وتمارس فعلها التوعوي. وهذا ما جعل الاهزوجة ناشطة في إطار الدفع بإتجاه الكلمة الصادقة والهادفة وليس المعسولة والمداهنة.
وفي واحدة من المفارقات، وكما ذكر الكاتب علي ابو عراق في مقال له في "طريق الشعب" وقف احد المهاويل امام الوصي عبد الإله.. وهو يهزج قائلا :
يا اهلا وسهلا يا وزير العيش
يمعيش الحكومة والشعب والجيش
لحم تاكل شوي والناس مامش عيش
يا بيگ ازرگنه بصمونه
وقد كان الوصي في ضيافة شيوخ العمارة، وعلى نهر دجلة أقيمت مأدبة كبيرة على شرفه وكان وقتها يأكل لحما مشويا على نار من الحطب.
الاهزوجة وانواعها
والاهزوجة من فنون الادب الشعبي المتميزة بنكهة فريدة، ونفس شعبي معبر عن هواجس وهموم وامنيات، وهي من الموروث الشعبي وتصنف في انواع :
1 - الاهزوجة العگيلية: وتكتب على بحر الوافر، كما تقال الابوذية، وكما وردت في اهزوجة قالها الزعيم مبدر آل فرعون في ثورة العشرين:
ما تنداس ثايتنه وحدنه
المبرد ما اكل بينه وحدنه
نشگ إشگوگ ونخيط وحدنه
وشگ ما يتخيط شگينه
او كما هزج الشيخ عبد الواحد آل سكر في ثورة العشرين:
جميع الناس مني وآنه بيهه
المواچب كثرة صارت وآنه بيهه
اطيور ام العلا ترف وآنه بيهه
وتندار الدنيه وهاذ آنه
2 - الاهزوجة الحچيمية : وهي نسبة الى بني حچيم، اهل الرميثة وما سالت به قرائحهم من اهازيج كان لها وقع كبير في حشد المقاتلين وتحقيق النصر على المحتل في ثورة العشرين الباسلة :
لون شعلان يدري إنباگت الثورة
چا فج التراب وطلع من گبره
مهيه بالسوير المسألة الكبرى
الشاهد عدنه الشاهد... احنه ايتام من العشرين
واهزوجة اخرى من الحچيميات التي هزج بها المهوال الشاعر حداوي ابو عبد عندما امر الطاغية صدام ممثله محسن الخفاجي محافظ المثنى السابق بزيارة عشيرة الظوالم:
شچاي اعتنيتك معتني شچاي
اريد آخذ برايك يا سديد الراي
نشف شط الرميثة وبعد ما ظل ماي
كون الرگه تگيش بيه اشلون ازرع يمعود
3 - اهزوجة العراضة : وهذه تقال في المناسبات ألاجتماعية (الفاتحة وتشييع الجنازة في الريف وعند العشائر او المناسبات الدينية او غيرها، وخاصة ما ورد من اهازيج في ثورة العشرين الوطنية ورجالها.. وما فاضت به قريحة الشعراء المهاويل)
هاي العارضية الها على الدول معتاد
كل جيش اليطبها يصيح منها الداد
الفاله بيد الآمر وصلت لبغداد
ومشكول الذمة اعله الفاله
وقد قسم عدد من الباحثين الاهازيج حسب المناطق الجغرافية للعراق: اهزوجة الجنوب والوسط والغرب، وفي الجنوب، هوسة العمارة، وفي الوسط..اهزوجة الفرات، وفي الغربية، اهازيج الرمادي. وجميع هذه الاهازيج يجمعها رابط واحد هو انها تتشكل من ثلاثة اشطر.. ثم تأتي الاهزوجة.
وفي مناسبات الاعراس تحصل اهازيج معروفة.. يرددها النسوة والرجال عموما.
في محافظة ميسان، واثناء الاقتراب من بيت العروس، يستقبلهم ذووها بابتساماتهم المعهودة، فينبري احدهم ليقول:
إحنه الوجبنه انزود اعليه.. احنه الوجبنه انزود اعليه
ولإثبات اصالة العريس يقول المهوال وهو يرد على اهل العروس :
اكحيل مصنصل من عمه وخاله
وهناك عادات مشهورة ما زالت سارية في الكثير من المدن العراقية الاصيلة وهي متوارثة عن السلف، حيث تقوم مجموعات من العشائر بزيارة اهل العريس. لتقديم التهاني بهذه المناسبة السعيدة، وعادة ما تطلق الاهازيج مثل:
امشوا نتبارك لبن اليسطر عيب ايهاب
او: إمشوا نتبارك لبن الطفه النار بعوچيته)
(امشوا نتبارك لبن الغيمة المطارة
وعندما تكون العروس من ارومة طيبة ومنبت اصيل فإنها تستحق المدح والإطراء، وهكذا يهزج المهوال :
جبنالك برنو ما ملعوب بسرگيها... جبنالك برنو ما ملعوب بسرگيها
وفي حالة حضور عم العريس... فإنه يرتجز اهزوجة خاصة بهذه المناسبة :
عمك حايط مرمر والعجزان ايطيح اعليه
وفي الفرات تكون الاهزوجة العگيلية كما ذكرنا اعلاه..
وفي المناسبات التي يحصل فيها نزاع او خصومات تؤدي الى معارك، تبرز الاهزوجة في مواجهة الاحداث وتأخذ طابع التحريض والتهديد :
ما يحميك هتلر لا تگول ازهيد
اخلي الدار غفره والمزار ابعيد
انه من احچي صدگ افعل وفعلي ايزيد
وتدريني اتگلب بالحد.. تدريني اتگلب بالحد
4 - الاهزوجة الوطنية:
وهذه من ابداع الشعراء المهاويل، الذين لازموا الانتفاضات واشتركوا بمعمعانها، واحتضنتهم ساحات النضال والكفاح ضد المحتل والحكام المتسلطين.. وهكذا هزج الشاعر علي العيساوي وهو يتباهى ببطولات اهله وعشيرته وابناء وطنه في ثورة العشرين :نتحده المنايه ونسحگ الطاغوت
ونعبر عالكلافة ولا يهمنه الموت
ومن طبع العراقي عالثجيله ايفوت
الچان تريد الشاهد عدنه الفايل بالعشرين
وهذا المهوال يعيد الى اذهاننا سطوة الحكام بعد ان يتوسلوا الناخبين ثم يظهرون لهم وقد تحولوا الى طواغيت واصنام :
صالح من لزمها گام يطي اسعار
رفع سعرالشعير المن وصل دينار
ليش اليلزم العليه يهجم اديار
الخير بيكم ياخذ وزره من العريان
وفي مناسبات التشييع لجنازة احد الشيوخ او الرجال المعروفين بالشهامة والرجوله وطيبة المعشر، تكون الاهازيج موشومة بالمدح والتكريم والاشادة العالية بخصال المتوفى، وكما هزج الشاعر :
إلك صل ايتلجلج ونته مح البيض
يا ذروة عمامك من سموم الگيظ
لا يحتصر طبعك لا تعرف الغيظ
كلنه انوح اعليه الحيد الغرب
* ومن النوادر التي سجلها التاريخ للأهزوجة الشعبية، ما رواه الباحث (علي ابو عراق) في بحث تحت عنوان ابن طوگه نشرته طريق الشعب العدد/5/ السنة 80/ الخميس 7 آب 2014: ان كلبا ابو كركوشة قد تحدى مجموعة من الجنود الانگليز في السماوة عند احتلال العراق بعد الحرب العالمية الاولى.. وكان يواصل مطاردتهم والنباح الشديد اثناء تعقبه لهم وضايقهم بشكل جعلهم يقدمون على قطع ذيله.. وعندما عاد الى دار صاحبه دون ذيل والدماء تسيل منه، شعر الرجل بالمهانة وجرح الكبرياء.. فقرر ان ينتقم لكلبه. وجاءت الفرصة المناسبة عندما قام بأسر اربعة من الجنود الإنگليز وإقتادهم الى داره.. حيث جردهم من ملابسهم وامسك سيفه وهوس امامهم:
عثركم.. تحت سيفي بخت مرزوگ
إبن طوگه النجيبة الما تعرف اتبوگ
نطلبكم بذيله يوم طب للسوگ
يهل النو ليش اتخرعونه
ومن ثم اطاح برأس احد الجنود، وتقدم نحو جندي آخر وهز سيفه وهو يهوس :
شمسوي الچلب ذيله الظهر ينگص
چا خليت إله منه ثلث يو نص
أمه تريد دختر گبل ما تغنص
من لحم الصوجر متخومة
وعندما رفع سيفه ليطيح برأس الثاني اعترضته عشيرته. ولكنه لم يزل في ذروة إنفعاله فقدم ثالثهم وراح يهوس:
أبحد اهل الچلب ما صارتش ميله
وآنه صاحبه العيب احمل العيله
منكم راد الف صوجر فصل ذيله
يتدلل واهله يجازونه
ثم اشهر سيفه على الرابع وراح يهوس ايضا:
ما تدرون بيهه الزلم تدري آني
عگب سيفي الشاطر شاطر لساني
كل يوم اليمر مرزوگ ينخاني
مهضوم يون وآخذ ثاره
لفتة الخزرجي