نقلا عن الموسوعة القرآنية للسيد القحطاني
نظرية المدد القرآني
أوضحت نظرية الحبل القرآني كيف إن للقرآن حقائق ملكوتية تسبح بين السماء والأرض تستمد نورها من الفيض الملكوتي القادم من عرش الله .
وهنا نتسائل : ما معنى المدد ؟ هو سيل مستمر من إفاضة معينة عبر الزمن دون توقف ودون انقطاع ، والقرآن هو مجموعة حقائق وجودية ويمثل حبل الله من العرش الإلهي إلى الأرض ، مشكلاً كما أوضحنا حبلاً (حزمة) من الفيض الملكوتي طرفه عند عرش الله وطرفه الآخر في الأرض ، هذا الحبل الإلهي يمثل عملية المدد المستمر للموجودات .
كما أوضحنا إن للقرآن ظاهر وباطن وأحاديث أهل البيت تنص على إن الباطن عبارة عن سبعة بطون من التأويل .
حيث ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) انه قال : (إن للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطناً إلى سبعة بطون )( ).
هذه البطون السبعة وصفت في القرآن بالأبحر السبعة المحيطة أو التي تملأ الكون وهذه الأبحر عبارة عن أبحر من الحقائق الوجودية القرآنية وكل بحر يمثل بطن من بطون التأويل .
حبل الله يمثل المدد الإلهي الهابط من العرش يمد تلك البطون والأبحر السبعة بالجريان والاستمرارية بحقائق جديدة هابطة بعد دورانها السابق في الكون في آخر مرة فكما بينا إن هذه الحقائق عندما تدور بعد هبوطها في الكون وعروجها مرة أخرى للعرش .
فإنها تهبط ثانية بحقائق ذات صور وأشكال جديدة وبمبادئ ومفاهيم ( سُنة الله ) ثابتة ، متناسبة مع تغير المكان والزمان في كل لحظة ، وقد بين الإمام أبي جعفر (عليه السلام) هذه الحقيقة بالحديث المروي عنه (عليه السلام) إنه قال : ( قال الله عز وجل في ليلة القدر {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} يقول فيها كل أمر حكيم - إلى أن قال- انه لينزل في ليلة القدر إلى ولي الأمر سنة سنة يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا وكذا .
وفي أمر الناس بكذا وانه ليحدث لولي الأمر سوى ذلك اليوم علم الله عز وجل الخاص والمكنون العجيب المخزون مثل ما ينزل في تلك الليلة من الأمر ثم قرأ :
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} )( ).
ما الذي نستخلصه من هذا الحديث ؟
نستخلص إن تأويل الحقائق القرآنية تهبط على قلب الإمام (ولي الأمر) المعصوم بصورة مستمرة مع تقادم الزمن في كل لحظة والتي تمثل الأوامر الإلهية {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وكل سنة في ليلة القدر تتم الحقائق (الأوامر الإلهية) في الوجود لتهبط حقائق (أوامر) جديدة على قلب المعصوم تناسب تغيرات المكان والزمان التي تمثل (علم الله المكنون والعجيب والمخزون) .
بقي أن نعرف ما هو مصداق هذا المدد القرآني في القرآن على اعتبار إن القرآن حوى كل شيء من الوجود بين طياته إن كانت مصاديق وحقائق ( تأويل القرآن ) أو صيغ لغوية لهذه الحقائق (تنـزيل القرآن) بقوله تعالى :
{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} .
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} .
{وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ} .
إذن لابد من وجود مجموعة آيات تعبر عن التبيان لذلك المدد الملكوتي ولكي نعرف أي من السور التي تطابق المدد يجب أن نعرف اشتراكها مع المدد بالمبدأ ، ما هو مبدأ المدد ؟
مبدأ المدد مأخوذ من المدد ، مده بالقوة أو مده بالغذاء ، الإمدادات العسكرية ، الإمدادات الغذائية ، وأقرب مثال لمعنى المدد الحقيقي هي الأُم ، فألام هي التي تمد وليدها بالحليب والغذاء والحب والحنان ، أي إن الأم هي المدد المادي والروحي للطفل .
ولكي نجد السورة التي تعبر عن المدد الملكوتي لابد أن تتسم بصفة الأمومة ، أي تمثل أم القرآن ، فأي من السور التي تمثل أم القرآن يا ترى ؟ ، لنعود إلى القرآن ليتكلم عن نفسه ويعرف لنا من هي أمه التي تمده بالملك والملكوت .
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} .
فعن أبي كعب إنه قال : قرأت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) فاتحة الكتاب ، فقال :
( والذي نفسي بيده ما أنزل الله من التوراة والإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ، هي أم الكتاب ، وأم القرآن ، وهي السبع المثاني ...)( ).
أصبح من المعلوم لدينا الآن إن المدد الذي يمد القرآن والوجود باعتباره جزء من القرآن هي سورة الفاتحة ، وهذا يعني إن مصداق كل بطن من بطون القرآن في سورة الفاتحة ، وبطون القرآن سبعة وآيات الفاتحة سبعة ، إذن فكل آية من آيات الفاتحة تعتبر المدد لأحد البطون السبعة .
والبطون متدرجة في الوسع والكبر من البطن الأعمق الأول الذي يكون أوسع الجميع إلى البطن السابع الذي يعتبر الأصغر والأقرب من السماء الدنيا الأولى .
والمخطط التالي يوضح ذلك :
والمثال السابق مثال توضيحي لتبيان حقيقة تنزيل الأمر من فوق سبع سماوات ، مد البطون السبعة للقرآن والسماوات بالحقائق الملكوتية التي تمثل الفيض الامدادي الإلهي للكون ، وبإضافة الآيات القرآنية التالية مع التوضيح السابق :
{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}( ).
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}( ).
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}( ).
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}( ).
نستدل منها :
• إن الأمر يتنزل من فوق سبع سماوات ( من العرش ) مروراً بالسماوات وهابطاً إلى السماء الدنيا والأرض بصورة مدد فيض الهي .
• إن كل سماء تعتبر مصداق لكل بطن من بطون التأويل القرآني وكل بطن هو آية من آيات سورة الفاتحة ابتدءاً من البسملة وانتهاءً بـ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} ، وكل سماء ( بطن ) هو بحر من الأبحر السبعة .
• عند تنزيل القرآن من العرش تترتب السماوات من الأولى ( وهي القريبة من العرش ) إلى السابعة وهي القريبة من الأرض ( السماء الدنيا ) ، وعند رفع القرآن تترتب السماوات تصاعدياً حيث تصبح السماء السابعة القريبة من الأرض هي السماء الأولى والسماء الأولى القريبة من العرش تصبح السماء السابعة .
• كل سماء من السماوات تسمى باسم الآية التي تحويها من الفاتحة :
1. السماء الأولى (سماء البسملة ) : {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ، القريبة من العرش .
2. السماء الثانية (سماء الحمد) : {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
3. السماء الثالثة (سماء الرحمة) : {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ} .
4. السماء الرابعة (سماء الملك) : {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
5. السماء الخامسة (سماء العبودية) : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
6. السماء السادسة ( سماء الهداية ) : {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} .
7. السماء السابعة ( سماء الغضب ) : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} ، القريبة من الأرض .
• إن الأمر ( الحقائق الإلهية الوجودية ) تملأ كل سماء من السماوات لقوله {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا} ، وقوله {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} .
ويجري بجريان الشمس والقمر والليل والنهار ، كل يوم أمداد لحقائق جديدة تختلف عن اليوم السابق ، وليس كما يعتقد به علماء الفيزياء في إن الكون يملأه فراغ شاسع ، والحقيقة إن كل سماء هي بحر ، ولكن بحر من ماذا ؟ بحر من وجود يشترك مع الماء بالمبدأ ، وله خصائص شبيهه (بالمبدأ وليس بالمصداق) بخصائص الماء الفيزيائية والميكانيكية ، وهذا الماء يصفه القرآن ، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} .
فسبحان الله الذي وصف البطون بالبحور .
ولعل الحديث المروي عن أمير المؤمنين يلخص تلك الحقائق المرتبطة بسورة الفاتحة بقوله (عليه السلام) :
( إن علوم الكون كلها في القرآن وعلوم القرآن في السبع المثاني وعلوم السبع المثاني في البسملة وعلوم البسملة في الباء وعلوم الباء في النقطة وأنا تلك النقطة )( ).
وهذا الحديث يعطينا دليلاً على إن رفع المعصوم يعني رفع القرآن من الوجود ، فعند رفع الإمام يعني رفع النقطة ورفع النقطة يعني رفع لعلوم البسملة ، (ولم يقل حروف (البسملة) المكتوبة على الصحف) بل علوم البسملة وعند رفع البسملة يعني رفع لعلوم السبع المثاني وعند رفع السبع المثاني يعني رفع لعلوم القرآن (البطون السبعة) وعند رفع القرآن يعني رفع الحقائق الملكوتية في الكون (علوم الكون) والذي يؤدي إلى قيام الساعة الكبرى .