زهور تعيش على أرصفة المجهول
أطفال الشوارع.. البراءة تحترق!
"لقد فَشِلنا بشكلٍ يائس في حماية الحقوق الأساسيَّة للأطفال"، بهذه العبارة القاسية افتتح كوفي عنان مؤتمر الطفولة، في إشارةٍ واضحة إلى المستوى المأساوي الذي وصل إليه أطفالُ العالَم.
وغالبًا ما تُخفِي صورةُ الطفولة الزاهية الواقعَ الذي يعيشه الصِّغار؛ وهو أشبه ما يكون بالرِّوايات المروعة، ونتيجة حتمية لهذا الواقع المرير الذي يعيشه أطفالُ العالَم، نشأ مصطلح "أطفال الشوارع"، لينشؤوا على الرَّصيف من خلال السَّرِقة، أو التسوُّل، أو مِن خلال تقديم خِدْمات؛ كتنظيف زجاج السيَّارات، أو تلميع الأحذية في الحدائق، وجمْع النفايات في الأماكن العامَّة، وغيرها من الأعمال.
ظاهرة مقلقة:
وظاهرة أطفال الشَّوارع أصبحتْ من الظواهر التي تُثير قلقَ المجتمع الإنسانيِّ، خصوصًا أمامَ تناميها وازديادها في المدن الكبرى يومًا بعدَ يوم، وفي الغالب لا تكاد تخلو مدينة في العالَم مِن أطفالٍ في حالةٍ يُرثَى لها، تجدُهم في مواقف السيَّارات، وقرْب المطاعم، وعلى الأرصفة، وفي الحدائق، وتجمُّعات إلقاء النفايات، لا ملجأَ لهم ولا مسكن، يتَّخِذون من الأماكن المهجورة وبعض الحدائق والأزقَّة مكانًا للمبيت، يفترشون الأرض، ويلتحفون السَّماء.
وفي تقريرٍ لأحد الخُبراء يقول: إنَّ الطريق إلى الشَّارع سالكة جدًّا؛ إذ إنَّ هؤلاءِ الأطفالَ على اتصال دائم بالشَّارع، منذ ولادتهم، فالآباء يمتهنون حِرفًا بسيطة؛ مثل: تلميع الأحذية، أو جمْع الخبز اليابس، أو يعملون باعةً متجوِّلِين أو متسوِّلِين، وهكذا يولد الآلاف من الأطفال في الشوارع، ويترعرعون فيها، فتراهم متربِّعين على الأرض عند تقاطُع الشوارع، أو داخل صندوق كرتوني وسْطَ السُّوق، أو على الرصيف، وشيئًا فشيئًا يتحوَّل الشارع إلى بيتٍ لهم.
أرقام مفجعة:
الحقيقة أنَّ الأرقام كبيرة، وطبقًا لآخر تقرير للأُمم المتحدة فإنَّ أكثر من مائة مليون طفل لا يدخلون المدرسةَ؛ بسبب الفقر والتميُّز، ويموت 11 مليون طفل سنويًّا تحت سِنِّ الخامسة؛ أي: 30 ألف يوميًّا؛ أي: وفاة طفل واحد كلَّ ثلاث ثوان، كما فَقدَ بين عامي 1990 و2000م بسبب النِّزاعات المسلحة أكثرُ من مليون طفلٍ أهلَهم، وفُصِلوا عن عائلاتهم، وجُنِّد أكثر من 300 ألف منهم، بينما قُتل أكثر من مليونين في الحروب الأهليَّة، وجُرح 6 ملايين، أو تعرَّضوا للإعاقة الدائمة، أو لتقطيع الأطراف.
كما فَقد 12 مليونًا منازلَهم، وشُرِّد 20 مليونًا، وهناك أكثر من 700 ألف طفل هم ضحايا الاتِّجار بالبشر؛ بسبب الطَّلب على اليد العاملة الرَّخيصة، وتزايُدِ الطلب على الصِّغار من فتيات وفتيان؛ للتجارة الجِنسيَّة.
وكما يقول التقرير، فإنَّ الفتيات الصَّغيرات أكثر تعاسة؛ إذْ يتعرضنَ لكلِّ أصناف التمييز، فهناك 60 مليونًا من أصل مائة مليون طفل غير مُسجَّلين في المدارس، هم بنات، وبسبب جِنسهنَّ تعرَّض عدَّةُ ملايين منهنَّ للقتل الجنيني، أو للتخلُّص منهنَّ عند الولادة، وأكثر من 90 في المائة من خادمات المنازل - وهو العمل الأكثر انتشارًا في صفوف الصِّغار - هم من البنات من سنِّ الثانية عشرة، حتَّى السابعة عشرة من العُمر، وفي بعض مناطق إفريقيا وآسيا تبلغ نسبة حمل فيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) عندَ البنات خمسةَ أضعاف الصِّبيان.
صرخة مدوية:
أمامَ هذه الكارثة العالميَّة، والفضيحة الإنسانيَّة، أطلقت فتاة بوليفيَّة تُدعَى (غبرييلا أزوردي)، وهي في الثالثةَ عشرةَ من العُمر صرخةً مدويَّة داخل مبنى الأمم المتحدة، باسم جميع الأطفال المُستغَلِّين في العالَم، أمامَ 70 زعيم دولة، ومئات الوزراء، من 189 بلدًا، وقالت في صرخاتها: "نحن ضحايا الاستغلال والتَّعسُّف من كلِّ نوع، نحن أطفال الشَّوارع، أطفال الحروب، أيتام الإيدز، نحن الضحايا لا أحدَ يسمع أصواتنا، يجب أن يتوقَّف كلُّ ذلك، نُريدُ عالَمًا يستحقُّنا".
وتكفي نظرةٌ واحدة إلى الطِّفل "مراد"، الذي شاهدناه على أحدِ الأرصفة؛ لندركَ أيَّ معاناة يعيشها بثيابه الرَّثة، ووجهه الممتلئ بالندوب.
إعاقة أخلاقية:
وكثيرًا ما يُصاب أولئك الأطفال بما يمكن أن نسمِّيَه بـ "الإعاقة الأخلاقية"؛ حيث يَصْدُر عن الطِّفل تصرُّفات لا تليق به إنسانًا؛ كاعوجاجِ السلوك، والتلفُّظ بألفاظ مشينة وعبارات بذيئة، لا تتفق وبراءةَ الأطفال، ويرى الباحث الاجتماعي أحمد أبو عياش "أنَّ زَجَّ الأطفال في أعمال شاقَّة، وتسريحَهم في الطُّرقات - يَسلُبهم طفولتَهم البريئة، ويؤثِّر في مستواهم النَّفْسي والجسديِّ".
وهذا يُشكِّل في نهاية الأمر طفلاً مُشوَّهًا أخلاقيًّا، تتجاذبه مجموعة من المشكلات النفسيَّة، والاجتماعيَّة، والسلوكية، فتبرز لديه الأنانيةُ، والقلق النفسي، واللجوء إلى التدخين والمخدرات والجرائم، فيلحق الضَّرر به وبالآخَرِين.
مَن المسؤول؟!
يرى كثيرٌ من الخبراء أنَّ ظاهرة انتشار الأطفال في الشَّوارع ناجمةٌ عن مجموعة من العوامل؛ أبرزُها: التفكُّك الأُسري، والتصدُّع في العلاقات الاجتماعيَّة، ونتيجة لليُتْم، والفقر والجهل، وفقدان المرونة في التعامل مع الأطفال، خاصَّةً الفِئةَ العُمريَّة 8 - 14 سنة، وهم ما يُطلق عليهم أطفال مرحلة الطُّفولة المتأخِّرة، أو المراهقة؛ لِيَجدوا الشارعَ هو المكانَ المناسب لهم، فيكتسبون عادتَهم، وقيمهم، وأفكارهم من تلك البيئة.
وترى مُعظمُ الدِّراسات أنَّ الحروب وما تخلِّفُه من إصابات نفسيَّة، وتهجير جماعي للعائلات من أماكن سكنهم الأصليَّة، وما تُسفِر عنه من ضياع العوائل، وقتل أولياء أمورهم - تعدُّ أهمَّ أسباب هذه الظاهرة، التي غالبًا ما تخلِّف عوائلَ لديهم الكثير من المشكلات النفسيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعية، مِمَّا يجعلها تغضُّ الطَّرْف عن تسرُّب أطفالهم من المدارس، والعمل في مِهنٍ على أرض الشوارع في مهمة توفير عائد يُؤمِّن حاضرَهم.