لقد كانت شخصية الإمام آية الله محمد تقي الشيرازي الكبير هي الشرط الذاتي الذي اكتملت به عناصر الثورة الكبرى، فلقد كان الرجل الذي أسس للمرجعية الدينية الوطنية الثورية في العراق؛ وبذلك ما عادت المرجعية مقتصرة على القضايا والشؤون الروحية الدينية فقط، بل منذ ذلك الحين صارت المرجعية تمثل القيادة السياسية الوطنية المشغولة بهمّ حرية الوطن واستقلاله، وكرامته وكرامة وسعادة أبنائه أيضاً.
وهكذا فقد صنعت ثورة العشرين العظيمة بقيادة الشيرازي الكبير (رض) تاريخ العراق المعاصر كله.
المدرسة الشيرازية.. مدرسة العلم والشهادة والثورة
في خاتمة كتابها الرائع (جهاد الشيعة في العصر العباسي الأول) تقول الدكتورة سميرة الليثي:
إن من عوامل استمرار حركات الشيعة عبر التاريخ وخاصة في العصر العباسي هو حب المسلمين لآل بيت النبوة، ليس لقرابتهم الخصيصة من رسول الله (ص) فقط، بل لأن علياً أصبح في نظر المسلمين كافة (مصدراً للعلم والأدب). وقد انحسر العلم عن بيوت كثير من أولاد الصحابة، فهي تقولومن هذه العوامل أيضاً، حب المسلمين لآل البيت بصفة عامة، وللبيت العلوي منهم بصفة خاصة. فقد أصبح بيت علي، في نظر كافة المسلمين، مصدراً للعلم والأدب. وقد انحسر العلم عن بيوت كثيرة من أبناء الصحابة، وأتبعوا الدنيا، أما البيت العلوي، فلم يكن فيه منحدر لينحسر منه العلم أو يغيض، وأصبح البيت العلوي في العصر العباسي الأول، أكبر مصادر النور والعرفان... وأنصرف آل البيت إلى العلم النبوي، يتدارسونه وفيهم ذكاء آبائهم، وهداية جدهم، والشرف الهاشمي، وتوارثوا ذلك الاتجاه العلمي، فورثوا الإمامة فيه).
وفي مكان آخر من نفس الصفحة تقول الدكتورة الليثي، (ومن عوامل استمرار حركات الشيعة أيضاً، فتح باب الاجتهاد).
هذه الحقائق التي سطرتها الدكتورة سميرة الليثي في كتابها، هي واحدة من شهادات عديدة وكثيرة، كتبها كتاب أمناء وباحثون شرفاء ملأت صفحات المجلدات والأبحاث والدراسات.
ومرت السنون والأحقاب والقرون وهذه المدرسة الثلاثية الأركان (العلم والثورة والشهادة)، راسخة البنيان لم تزل تقدم العلماء الأعلام والثوار الشجعان والشهداء الأبرار.
وجاء القرن العشرون، القرن الذي شهد أحداثاً جساماً لم تشهد البشرية لها مثيلاً طيلة عمرها الطويل فقد شهد القرن المنقضي نهضة الأمم والشعوب، بعد رقاد طويل أمتد لعشرات السنين، ومن تلك الشعوب الشعب العراقي فكان لمدرسة أهل بيت النبوة عامة والبيت العلوي خاصة أن تأخذ دورها الذي اضطلعت به منذ تأسيسها على يد صاحب الرسالة (ص) وباب مدينة علمه، وحامل رايته وقائد جيوشه الإمام علي(ع). فكان الإمام آية الله محمد تقي الشيرازي (رض) هو المدرسة، الذي وجدت فيه جموع المسلمين الرجل المناسب في الزمن المناسب، فبايعته قائداً ومعلماً ومرشداً.وثم كانت المدرسة الشيرازية التي أسسها الإمام الثائر مرجع الإسلام والمسلمين استمراراً لمدرسة أهل البيت وتجسيداً حياً لها، وتحقيقاً لأركانها الثلاثة: العلم، والثورة، والشهادة في عصرنا الحالي،. فكما هرول المسلمون الثائرون نحو الإمام علي (ع) واختاروه إماماً وقائداً ومعلماً، في أشد الأوقات محنة وأكثرها خطورة، كذلك هرول العراقيون الثائرون إلى الإمام الشيرازي الكبير، في أشد الأوقات محنة وأكثرها خطورة، فبايعوه إماما وقائداً ومعلماً، كما فعلوا مع جده تماماً.
بعد رحيل الإمام والقائد الشيرازي الكبير، استمرت هذه المدرسة في عطائها، وفي ترسيخ قواعدها، وتعزيز أركانها، ليس طلباً لجاه أو رغبة في زعامة، بل تأدية لواجب شرعي ورثته كابرا عن كابر، فجاء السيد مهدي نجل آية الله الشيرازي الكبير ليكمل الطريق الذي ابتدأه القائد الوطني العظيم، رغم معرفته بوعورة مسالكه، وصعوبة شعابه، فكان علماً من أعلام الهدى والعلم والوطنية. وبعد أن أدى الأمانة على أعظم ما يكون عليه أداؤها، وكما عرف بها آل محمد وأبناء علي(ع) سلم الراية، وأعطى الوديعة إلى أبنائه الكرام البررة.
فكرة وجهاد وشهادة
ولد الشهيد آية الله السيد حسن بن الميرزا مهدي في مدينة النجف الأشرف في العراق عام (1254) للهجرة. ونشأ وترعرع في أحضان بيت العلم والجهاد والثورة، وتربى على يد وفي ظل والده المجاهد الذي عاش أيام الجهاد وثورة العشرين المجيدة التي كان يقودها الإمام الشيرازي الكبير.
وتتلمذ على أيدي كبار الفقهاء والعلماء مثل آية الله العظمى السيد الميلاني وآية الله العظمى الشيخ محمد رضا الاصفهاني وعلى يد والده (قده) آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي وأخيه الأكبر آية الله العظمى فقيد الأمة الإسلامية الكبير السيد محمد الحسيني الشيرازي (رض). حتى بلغ المرحلة العالية في الفقه والأصول ونال درجة الاجتهاد والاستنباط للأحكام الشرعية.
ولم يكتف بدراسة العلوم الإلهية الشرعية بل أنه اجتهد في مجالات أخرى من المعارف والعلوم الإنسانية، كالأدب والشعر والبلاغة، وقد نبغ فيها جميعها.
جهاده
لكونه كان واحداً من بيت بايعه مجاهدو العراق قائداً لهم، فقد ولد الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي (رض) وهو يحمل روح الجهاد والثورة، فكانت تلك القيم ينبض بها قلبه منذ طفولته، وتسري في عروقه مع دمائه الطاهرة، التي سالت على درب الشهادة في سبيل حرية العراق وكرامة أبنائه.لقد نشأ في بيت يتنفس أهله هواء الثورة وعبق الجهاد فكبر، وقد كبرت معه هذه المبادئ والقيم، فما أن بلغ سن الشباب حتى بدأ مشوار جهاده الطويل، وهو لما يبلغ العشرين من عمره فقد اقتحم غمار النضال الوطني بكل صفات العلوي المجاهد، من جرأة وشجاعة وصدق ومبدأ، لا يعرف المساومة والمهادنة أو المداهنة، وكانت بداية ذلك المشوار في تصديه للنظام الملكي البائد العميل للاستعمار البريطاني، ولرموزه كنوري السعيد الذي شغل منصب رئيس الوزراء والحاكم الفعلي للعراق طيلة فترة حكم ذلك النظام وكذلك إلى (بهجت العطية)، رمز ظلم ذلك النظام وبطشه وقسوته والذي كان يشغل وظيفة مدير الأمن العام.وقد استخدم في تصديه الشجاع ذلك مختلف الوسائل والطرق ومنها أسلوب التنبيه والحث، فقد كان يقوم بزيارة ومقابلة الشخصيات السياسية، والرسمية، ويضعهم أمام مسؤولياتهم في القضايا العامة والخاصة، ويحذرهم من التواني والتباطؤ في تنفيذ ما تقتضيه المصلحة العامة.وكان رضوان الله عليه يدعوهم للاهتمام بالعتبات المقدسة والقضايا الإسلامية بصورة عامة، والتي كانت تعاني من الإهمال وعدم الاكتراث.وقد ضاق المسؤولون في بغداد ذرعاً من إلحاح السيد الشهيد وإصراره على المطالب التي كان يتقدم بها، ومتابعته إياها، ورفضه التنازل عنها، أو التخفيف منها.