TODAY - 28 September, 2010
جماعة النقد العراقي الجديد .. أسئلة الحداثة وأوهام التاريخ الثقافي
علي بدر ... حيدر سعيد ... حكمت الحاج
علي حسن الفواز *
ان اية قراءة دقيقة وباحثة في مشهدية الثقافة العراقية يمكن ان تكشف لنا الكثير من الظواهر السرية لتشكلات هذه الثقافة، وطبيعة ما تقترحه من مستويات وانجازات ومهيمنات، والتي يتجوهر فيها الخطاب الثقافي المتداول والنافذ، والذي ظل يصطنع له عبر هذه الطبيعة تشفيرات فيها الكثير من الرهاب الايديولوجي انساقا معرفية ونقدية، وبما يجعله اكثر قدرة على الاحتفاظ بالكثير من البداهات، تلك التي تهجس بقوة المهين على روحه السرية التي تتململ نافرة في اعماقها وهي تقاوم عوامل التعرية التي أخذت تلامس الجسد الثقافي العراقي بشراهة.
ولعل من ابرز العلامات المضادة لهذه التعرية كانت صناعة (الثقافة النقدية) ليس تلك التي أكل الكثير من عشبتها مريدو الاستعراض والانطباع العجول وصنّاع الاخوانيات المجلجلة بالهتاف، وانما هي الوجه الآخر للاجراء الثقافي الذي جاهر بامتلاكه ماهو مضاد من الاسئلة، وحيازة القدرة على الذهاب بعيدا الى جوهر ذلك الثقافي في سياقه النقدي، الذي حاول ان يتمرد على الكثير من مرجعيات ماهو ايديولوجي وعصابي وابوي وحزبي، اذ يتحول هذا النقدي الى فاعلية ثقافية واجتماعية ضاغطة، تجسّ باشتغالاتها ماهو مسكوت عنه، وماهو غائر في تلافيف العقل النكوصي الشعبوي والنخبوي.
هذه التحولات فرضت شروطها وآليات عملها وحتى خاصية اغواءاتها باتجاه وضع الجسد الثقافي، خارج المقايسات القرائية التقليدية التي ظلت تفرضها مقاربات النص/النقل، والقياس الفقهي والذي ترك النقد كنص مضاد امام لعبة عدمية استغرقتها السلطة الرمزية للتاريخ وعمومية الانطباعات الفاضحة، والتي وضعت اجندتها طوال عقود اسماء معينة واباء سلاليون وفقهاء سريون، اولئك الذين أسهموا عبر صناعة نموذجها وتسويقه الى تكريس الخطابات الاقرب للواقعية والايديولوجية، فضلا عن القصدية في تضخيم الذات الثقافة العراقية التقليدية، بكل ماتحمله من مرجعيات حزبية ومدرسية واسطورية وحتى ماهو متماه مع اشاعة غرائز الكائن الثقافي والمقهى الثقافي، والتي كان لها الحضور الفاعل في تعويم شخصانية ظاهرة الناقد في المشهد الثقافي العراقي. في هذا السياق كان هناك البعض من الجماعات الجديدة من النقاد تحاول الخروج عن المرجعيات السسيوتاريخية للنزعات التاريخية، من خلال ما تجترحه لنفسها من مغامرات وطقوس مغايرة، واسئلة اكثر سخونة، ونزوع نحو النفور والتمرد على الانساق الواقعية والانطباعية والايديولوجية التي هيمنت على العقل النقدي، والتمرد كذلك على مدرسيات العقل الاكاديمي التقليدي وعلى (اشاعات) ثقافات الغرائز، اذ وجدت ان مشروعها النقدي رغم كل المعوقات يقف عند اتجاهات يمكنها التوغل اكثر في جسد النص، و تلمس بعض اشكالاته العميقة في ضوء مايمكن ان تقترحه معاينات المنهجيات الجديدة، وفي ضوء ما تقترحه من اسئلة تضع الاجراء امام النقدي عاصفة الاسئلة المباشرة للوجود واللغة والفكر والسلطة والخطاب باعتبار ان هذه المكونات هي ألاجندة الاكثر فاعلية لمشروع ( النقدية) المعاصرة.
ومن بين هذه الجماعات برز عدد من النقاد الشباب الذين بدأوا ممارسة اشتغالاتهم النقدية الجديدة والمثيرة للاسئلة المضادة في وقت متأخر من نهايات القرن الماضي مثل عبد الله ابراهيم، سعيد الغانمي، عواد علي، باتجاه قراءة ماهو اكثر من(الاوهام السائدة) في ثقافات الحداثة ومفاهيمها الجديدة، واتجاهاتها الاكثر تجاوزا في المعرفة والعلمنة والتأسيسات النظرية للمناهج الادبية، والتي وضعت نفسها امام فهم مغاير لاستكناه ماهو عميق في الثقافي والجمالي وكل الجهاز المفاهيمي المؤسس للنظرية النقدية. وبطبيعة الحال فان ظهور هذه الجماعة من المغامرين الحاملين لعدة الحفارين الاكاديميين المتمردين، وامتيازات القارىء العمدة كما يصفه ريفاتير، لايمكن قبولهم بسهولة في حاضنة المقهى والايديولوجيا والحزب والرصيف وحاضنة المؤسسة الادبية الرسمية بما فيها المؤسسة الاكاديمية ،لانهم سيكونون بمواجهة ساخنة مع (جمعيات الشعراء الموتى )
ظاهرة هذه الجماعات النقدية لم تجد في الاكاديميات التقليدية حواضن حميمة، بل نشأت في البيئات العميقة لشارع المتنبي ويومياته الضاجة بالكتب السرية والاوراق الحاملة لكل ثقافات التمرد على اليوميات الرسمية لثقافتنا، قضلا عن ماهو ضاج في مقاهي حسن عجمي والشابندر، اذ كانوا يشتغلون لانتاج مدونة طويلة للافكار، وكأنهم يمارسون(صناعة سرية) يؤسسون لها نصا واسلحة ومفاهيم وقراءت، مثلما يصنعون لها مزاجا اقتحاميا يكسر رتابة القراءات الغاطسة في متاهات ما اسسه اوهام الثقافة واشاعاتها. انهم التمرد على الديوان والذاكرة، والاكثر اهتمام بصياغة الاسئلة، وربما كان بعضهم يميل الى انسنة جدالات مايدور حول هذه الاسئلة، تلك التي تحاول تبرير وجود التأويل المنفتح على تعددية الافكار، وربما كان بعضهم الاخر يحتج على اشكالية شيوع ظاهرة الطرد المتواصل للفكر من يوميات الثقافة العراقية والتي يقول عنها الباحث والناقد د.حيدر سعيد بانها لم تهضم عملية ادماج الافكار بالتاريخ الرسمي.
لقد حاولت هذه الجماعات ومنهم كما اسلفنا(عبد الله ابراهيم وسعيد الغانمي وعواد علي) فضلا عن اسماء اخرى ضمت( حسن ناظم وحيدر سعيد وعلي بدر/ قبل تحوله الى روائي/ وصفاءصنكور ويحيى الكبيسي وناظم عودة وعلي حاكم ومحمد غازي الاخرس وغيرهم ان يضعوا هاجس اعادة قراءة الثقافة كنصوص، من منطلق تحرير هذه الثقافة من عقدة التاريخ وترحيلها الى اللغة، وهو مااسهم في تفجير المخيال السردي للثقافة العراقية، وانفتاحها على ما يشبه(الثورة السردية) التي وضعت اسئلتها امام اشكالات العقل الثقافي والعقل السياسي/التاريخي العراقيين.
ورغم قلة حيلتهم التي افقدتهم القدرة على مواجهة ازمة التاريخ وازمة المؤسسة الثقافية والمؤسسة السياسية في تأهيل متون تتسع لانتاجهم المطبوع، الاّ ان اغلبهم وخاصة من اشتغل في مجال البحث النقدي النظري في مجالاته(الالسنية والسسيولوجية والانثربولوجية) ظل متماهيا مع الواجهات العلنية لظاهرة غريبة في الثقافة العراقية وهي ظاهرة(الثقافة الشفاهية) وابطالها حكمت الحاج وحيدر سعيد وحكمت الحاج وعلي بدر وجمال العميدي وصفاءصنكور، اذ لم ينتج اغلب هؤلاء كتابا واحدا وظلوا اشبه باخوان الصفا منتجي رسائل في الجدل المعرفي بامتياز، باستثناء البعض المحدود منهم الذي خرج الى المهاجر ومنهم ناظم عودة وعلي حاكم وحسن ناظم وعلي بدر الذي اكتشف فيما بعد ان طاقته الاكبر في الرواية فيما بعد والبحث في طوبوغرافية الاجناس والحيوات الضاجة بها الامكنة العراقية، اذ وجد هذا البعض في الغربة والمهجر اجواء مختلفة تماما ، أتاحت لهم سوانح متعددة في التعاطي الجديد مع المعرفي والنقدي على اساس قدرته في مقاربة التأسيس العلمي والنظر المعمق بمناهجية فاعلة الى الدرس اللغوي النقدي كونه درسا مستقلا عن الحياة اليومية او كما يقول حسن ناظم بانها اعادت انتاج قناعاته في الكثير من الاشياء ..
ان المنفى الثقافي الحقيقي ليس هو منفى الجغرافيا وسيولة الامكنة فقط بقدر ماهو منفى الاشباع واعادة قراءة خارطة القناعات... وازاء هذا سعى اكثر نقاد هذه الجماعة الى حاضنة المنفى للتبشير بمشروعهم النقدي والبحثي وحتى الترجمي، وفي اجتراح سياقات عمل اكاديمية وعلمية وقراءية تنطلق من شروعه في تأسيس برنامج ترجمي واسع ومنهج للكثير من الاتجاهات الاساسية في علوم اللغة والمعرفة والعناية الخاصة بتقديم هذه الافكار والمفاهيم اللسانية في القراءة والتلقي وفي مجال الشعريات مثلما هي في اطار ما تمثله من اسس لثقافة جديدة ،ثقافة معرفية ونقدية ،باعتبار ان المثقف النقدي هو اكثر المثقفين اثارة للاسئلة ..
* ناقد عراقي