TODAY - 28 September, 2010
العرب يكتبونها أثناء وجودهم في المنصب لانهم يشغلونه حتى الوفاة
مذكرات الرؤساء: تلميع للذات وسوق للتبريرات
مروة كريدية من أبو ظبي
جدل رافق إطلاق توني بلير لمذكراتهتُعدُّ مذكرات الرؤساء أكثر السير الشخصية إثارة للجدل في تاريخ الأدب السياسي ليس لكون أصحابها يتمتعون بذوق أدبي راقٍ، بل لأنهم يسردون وقائع عايشوها خلال توليهم مناصب طالما تَحكَّمَت بمصائر شعوبهم الداخلية وغَيَّرت في المسارات الخارجية للعلاقات الدولية والأنظمة السياسية في العالم.
يعتبر المؤرخون أن المذكرات الشخصية للزعماء لا يمكن ان تُعَدّ تاريخًا حقيقيًّا يمكن التعويل عليه كون كاتبها يخضع لذاتيته ومشاعره ودوافعه الشخصية المطلقة، كما انها تفتقر للدقة العلمية وهي تعليلية تسوق التبريرات الغير موثقة في كثير من الأحيان.
إيفان كورنوج في كتابه "القصة والسلطة" يرى ان مفتاح السرد للسير الشخصية الخاصة بالرؤساء لا يتعلق بقول الحقيقة أو "الصدق" بقدرما يتعلق بالطرح المنطقي للقصص المروية، ويقول كورنوج الذي يعمل أستاذ إعلام في جامعة كولومبيا ان: "منذ العهود الأولى للرئاسة الأميركية، كان يتعين على كل من يسعى لاعتلاء رأس السلطة أن يحكي قصصاً منطقية عن الأمة ومشكلاتها والأهم من ذلك عنه شخصياً".
أما الناقد العربي فإنه يرى في مذكرات الرؤساء "إدانة" لهم، تستوجب التحرك القضائي، لذلك فإن اشتغال النقاد العرب على المذكرات يحظى بتحليل "سياسي" يتجاوز التأريخ والقراءة "الأدبية" و يسلط الضوء على فترة حكم الرئيس وموقفه من الصراعات في الشرق الأوسط والقرارات المتخذة بشأن النظام العالمي، لذلك تنصب مقالاتهم عقب صدور المذكرات على الجانب "الفضائحي" لعلاقة الإدارة السياسية بتحريك الحروب.
الأديب شهاب عبده غانم قال لـ "إيلاف" "قانونيا وسياسيا ودبلوماسيا من الصعب على - رؤساء الغرب- نشر كثير من المعلومات وهم في المنصب. وهم دائما يضعون نصب أعينهم ردود فعل النقاد والصحفيين والأكاديميين الذين سيشرحون جثة ما يكتبون ويفضحون أية ادعاءات كاذبة أو مبالغ فيها، فحرية القول والصحافة مكفولة للنقاد تحت مظلة الديموقراطية في الغرب. وهم يحاولون في كتبهم أن يوضحوا وجهة نظرهم حول احداث هامة حدثت أثناء وجودهم في الحكم واتهموا بإساءة التصرف خلالها كما فعل بلير في مذكراته التي صدرت مؤخرا وروج فيها لوجهة نظره حول جريمة غزو العراق. فهم يريدون تلميع صورهم و كسب المجد ولكن أيضا جني ثروة من بيع مذكراتهم ولذلك تكثر مثل تلك المذكرات في الغرب".
ويصف العميد المتقاعد برهان إبراهيم كريم كتاب "في قلب العاصفة" الذي يشتمل على مذكرات جورج تينت وكيل مدير وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي.أي.آيه) بأنه: "منجم فضائح وكشف لعمليات فساد في دولة عظمى". ويتساءل: "ومع ذلك لا تجد أي رد فعل من الكونغرس، أو القضاء الأميركي للتحقيق والتدقيق بما تطوع من أجله تينيت دفاعاً عن بلاده لينشر مذكراته. فلماذا لا يطالب الشعب الأميركي بتشكيل محكمة دولية لمحاكمة كل من اتهمهم تينيت في مذكراته"؟
أما غانم يرى ان مذكرات معظم رؤساء الغرب نُشرت بعد خروجهم من المنصب في حين ان العرب لا يخرجون من مناصبهم عادة ويقول أما في البلدان العربية فالزعيم قد لا يجد وقتا ليكتب مذكراته بعد خروجه من المنصب لأنه عادة يخرج من المنصب إلى القبر إما بسبب الموت الطبيعي (وغالبا بعد أن يكون قد بلغ من العمر عتيا وبعد أن جلس على أنفاس أمته عقودا طويلة) أو بسبب انقلاب يقضي عليه مشيرا الى ان بعض الرؤساء العرب كتبوا مذكراتهم أثناء وجودهم في السلطة كما فعل جمال عبدالناصر والسادات وهم بهذا: "يروجون لرؤيتهم السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية ويضمنون انتشار كتبهم ورواجها ويستطيعون أن يدعوا لأنفسهم من الإنجازات والمواقف ما يحلو لهم، وهم أيضا ربما يبحثون من وراء كتبهم تلك عن المجد."
ويرى غانم انه: "في كل الأحوال يمكن اعتبار كتابات الزعماء في الغرب وعند العرب مصادر معلومات أولية تاريخية مهمة بعد تمحيصها". ونجد ان عمل النقاد العرب لسير رؤساء الغرب انصب حول الشأن العربي والفلسطيني والاحداث الشرق اوسطية استشهدًا أو دحضًا، فإن وافق مضمون المذكرات تطلعاتهم وناصرت قضاياهم استشهدوا بها واعتبروها مرجعًا والا فهم يصفون كاتبها ب"الكذب" والانحياز، لذلك حظيت مذكرات هاري ترومان بدراسات كثيرة في العالم العربي كونه واكب انطلاق دولة اسرائيل واعلن اعترافه بها في ايار 1948 وتميزت مواقفه الداعمة لمناصرة قضاياها فيما وجد في مذكراته التي كُتبت بخط اليدعلى رفوف مكتبته وسمح الأرشيف القومي الأميركي بنشرها مؤخرًا انه كان على غير مواقفه العلنية حيث قال: "لقد وجدت اليهود أنانيين جداً جداً، ولا يهمهم عدد القتلى..... في حال امتلاكهم للقوة المادية أو المالية أو السياسية فلا يضاهيهم عندئذٍ هتلر أو ستالين في مستوى القسوة وسوء المعاملة والاضطهاد لمن يسيطرون عليه"
ولعل الاحتجاجات التي رافقت اطلاق توني بلير لمذكراته خير شاهد على ان محور المذكرات غالبا ما يكون تبريريًا حيث يؤكد بلير انه: "كان من اوائل الزعماء في العالم الذين شعروا بخطر الاسلاميين الراديكاليين" وانه "صانع سلام لأنه قاد مفاوضات بين المتشددين في ايرلندا مما ادى الى اتفاق الجمعة العظيمة، ثم الى وضع حل لأزمة البلقان ومن بعدها دوره في اقرار الديموقراطية في العراق ودوره بالتوسط في ازمة الشرق الاوسط المستعصية".
من جانب آخر فإن معظم السير الذاتية تُكتب عبر وسطاء حيث يعمل كاتب معين على توثيق أفكار الرئيس بأسلوب أدبي يحاكي احيانا "الادب البوليسي"، روبرت كارو الذي جمع وكتب حياة جونسون أشار الى ان مذكرات الرؤساء غالبًا ما تكون "جاهزة "وخاضعة "للتعليب" وهي "جافة وينقصها الاتزان الأدبي".
شهاب غانم أشار بالقول: "قلة هم الزعماء الذين يمكن اعتبار سيرهم الذاتية أو كتبهم أعمالا أدبية ومن هؤلاء غاندي وديغول وتشرشل الذي حصل على جائزة نوبل للآداب. ولكن كثيرا من الزعماء في الغرب وأيضا في الشرق يستعينون بكتاب محترفين لتصحيح أو إعادة صياغة ما يكتبون وربما اكتفوا بسرد الأحداث على الكاتب وتركوا أمر الصياغة الأولية له وربما الصياغة النهائية أيضا".
أما الدوافع الحقيقية التي تقف وراء كتاب المذكرات فغالبًا ما تكون ماديّة بغرض الشهرة وتحقيق الربح فمجرد وضع اسم "رئيس" على جملة أحداث كفيل بتحقيق المبالغ الطائلة حيث بيعت 263 ألف نسخة من مذكرات ريتشارد نيكسون كما سجلت مبيعات كلينتون رقما قياسيا في مبيعاتها في اليوم الأول بالنسبة للاعمال غير الروائية حيث بيع منها 400 ألف نسخة في الولايات المتحدة الاميركية، كما وصلت مبيعات النسخة الصوتية من الكتاب الى 35 ألفا منذ اليوم الأول، فيما تعتقد دار "راندوم هاوس" ناشرة كتاب "الرحلة " لتوني بلير الذي صدر مطلع هذا الشهر انها ستبيع نصف مليون نسخة في المرحلة الاولى من الصدور فيما اشارت مصادر الى ان بلير حصل على دفعة مالية مسبقة مقابل نشر مذكراته بلغت خمسة ملايين ونصف مليون يورو.
وقد أشار روبيرت ماكروم المحلل البريطاني ان الغرور والمال وتحقيق المصالح الذاتية هي أهم الدوافع الكامنة خلف كتابة الرؤساء لمذكراتهم كما ان تحسين الصورة وتلميع فترة الحكم وإلقاء التهم على الآخرين من المحاور المهمة في المذكرات.
فمذكرات ريتشارد نيكسون كانت لتلميع صورة رجل إثر فضائح كثيرة شهدها عهده اهمها فضيحة " ووترغايت" الذي استقال من جرائها، حيث يرى المراقبون انه أمضى حياته إثر خروجه من سدة الحكم في محاولة لتلميع دوره الوطني وصورته فكتب حتى اواسط التسعينيات تسعة كتب، قدم فيها رؤيته السياسية والتحديات القادمة، وقد اشبعت مذكرات نيكسون تحليلا اكاديميا كونها جاءت مطولة وتخدم صاحبها الذي كان عليه تبرير الكثير من الأسباب والقرارات التي اتخذها خلال فترة حكمه.
ونجد في مذكرات جورج تينت تحميل مسؤولية هجمات لادارة بوش مشيرا، الى ان تفادي هجمات 11/9/2001 كان ممكناً لولا بيروقراطية إدارة الرئيس جورج بوش في محاولة منه لدفع اتهامات بوش للوكالة التي يرأسها بالتقصير. كما اشار الى ان تقريره عن وضع العراق الذي مهد للحرب فيما بعد كان بتوجيه من السيناتور بوب غراهام رئيس لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ، حيث طلب منه جعل تقدير المخابرات القومية يتضمن قيام العراق بتطوير أسلحة دمار شامل، وتبيان أوضاع القوات العسكرية العراقية، وأستعداداتها وقدراتها على القتال، وتأثير أي هجوم أميركي ضد العراق على دول الجوار، ورد فعل صدام المحتمل على حملة عسكرية أميركية تستهدف تغيير النظام في العراق.
إذن نجد ان مذكرات الرؤساء بمجملها تحاول "تلميع الذات " بشكل أساسي وتعليق مسؤولية القرارات "الكارثية" على آخرين ونجد ذلك بوضح في مذكرات ليندون جونسون حيث اشار انه خاض حرب فيتنام بخطى واثقة وكان واثقًا من الفوز وان "اميركا تنتصر في جميع الحروب التي تخوضها من دون شك" في حين ان الأشرطة السرية التي سجلها شخصيا ما بين عامي 1964 و1965 على جهازه الخاص في البيت الابيض وقد أُفرج عنها ونشرت مؤخرا اظهرت عمق التردد والخوف من الهزيمة حيث يقول لزوجته بيرد: "لا استطيع ان اخرج من فيتنام ولا استطيع ان انهيها بما في حوزتي، ولا اعلم ماذا افعل، لست مؤهلا مزاجيا لأن اكون قائدا أعلى". ويقول:"ان اتخاذ أي قرار بشأن ما اقوم به في فيتنام، يشبه وجودي في طائرة، وعليّ الاختيار بين تحطيم الطائرة أو القفز منها بلا مظلة".
ويصف الأدباء النقديين كتب المذكرات الشخصية للرؤساء بأنها مملة غالبًا وهي لا تخدم غير أصحابها لانها تكون قد عُلبت وأعدت سلفًا على نمط الخطابات حيث يلجأ الرؤساء السابقين إلى "كتاب" لكتابة مذكراتهم، غير ان المذكرات القديمة للرؤساء القرن التاسع الاميركيين اتسمت بقيمة أدبية عالية لانها لم تكن تكتب بغرض الدعاية كما ان احداثها كانت تتناول الشأن الداخلي الاميركي مما دفع بالاديب الشهير صمويل كليمانس المعروف ب "مارك توين" الى وصف مذكرات يوليوس جرانت بأنه لا يوجد لها منافس في تاريخ الأدب الأميركي وانها عبارة عن عمل أدبي رائع وفريد لانه يتميز بالمباشرة ووضوح العبارة والبساطة وكذلك بالموضوعية والأمانة في سرد الوقائع الخاصة بالأصدقاء والأعداء على حد سواء.
ايلاف