.
المرأة والكلب
………
في الحديقةِ، يمشِي يومياً، عندَ تنفُّسِ الصباحِ، رجلٌ وكلبٌ وامرأة. الرجلُ طويلٌ، ليسَ طويلاً بالضبطِ، بل يَمِيلُ إلى الطولِ، بكَتِفَين مُعضَّلتَين، أقرَعُ، ومؤخِّرةٌ دبّابَة. والكلبُ ضَخمٌ نقيضَ العادةِ، “بيتبول دوج” أو الألمانيّ الفَجُّ العنيفُ. أما المرأةُ فقَصِيرةٌ نِسبياً، هَيفاءُ، مُدبِرةٌ، عكسَ الرجلِ، فمؤخِّرتُها مُنسَابةٌ سيَّالةٌ مَسحُوبة، كجِذعٍ مالَ إلى حَبِيبٍ، أو قوسِ ضِلْعٍ ذَبِيحٍ يَسرُّ الطاعِمِين، أو رقصةِ سامبا تخدمُ الخِفّةَ في عَضَلَتَيْ وِركَيْها، لكن المرأةَ بيضاءُ، لا نقطةٌ فيها خِلاسِيَّة.
.
ومما يَزِيدُ الإثارةَ، تَتَخَطَّرُ في شَفِيفٍ، لكنهُ غيرُ كاشِفٍ، كمِشْيَةِ شَهوانيّةٍ عَزباءَ. في يدِها “مَجُّ” نِسكافيهَ، وترشُفُ منهُ على تَواتُرٍ، كلُّ خُطوتَين وأُخرَى، في لَهوٍ بريءٍ. لو رَسَمناها بالفَحمِ لبانَ هَيكلُها مِعطاءً، كمنحوتةٍ تقيِسُ الزمنَ ولا تقبَلُ الفَناءَ. ولو فتَحنا بالَها، لتَكَشَّفَ عن ضِحكَةٍ حَمراءَ تلوي قَسماتِها قبلَ الأوانِ. ولو ضاعَفنا الخَيالَ، كالمأخوذِ بالوَهمِ عن نِصفهِ الآخرِ، لوَجَدناها قَرابةَ حَجمِ الكلبِ؛ فإن لَوَينا عُودَها ببطءٍ تَحتَ حِقوَيْها، لَسَارَت على أربَعٍ، كالكلبِ؛ تَسخو نحوَ نُقطة جَمال.
.
لا أريدُ أن أَكْسِرَ رومانسيّةَ أحدٍ، أو أرفعَ جَوهرةَ التاجِ لأَقضِي طاعَةً، لكن تولاّها أبونا من قبلُ “أوفيدُ” في تَحَوّلاتهِ. فقط: تَنقُصني أُسطورةٌ، وربٌّ مجنونٌ مثلَ “زيوس”، وقوةُ “هاديسَ” العَمياءُ، حتى أُحِيلَ العدَمَ إلى وجودٍ. كانت العصافيرُ تُمرِّغُ مَشغولاتٍ ذهبيّةً في مَكرٍ بالهواءِ، تَحفِزُني، رنّانَةً، وهي عُدوانيةٌ بلهاءُ دونَ سببٍ، لكنها تُوافِق مِزاجي، حيثُ أَهوَى تَعَدِّيَ النظامِ، إلى خُلوةٍ هَمَجِيَّة، فقدَّرتُ أن أَسحَبَ المرأةَ صَوبَ بيتي، فلا يُحِسُّ “الرَبْعةُ” المَكِينُ، ثمّ أُغمِّيَ الكلبَ سَهواً، بمِنديلٍ قديمٍ، لُزومَ الأُسطورةِ…
.
(هنا المَربَطُ. شَوقي إلى منسِيّةٍ كالذئبِ خلفَ سِتارٍ، أُخرِجُ من زَكِيبتي بعَصاي. دقِيقَةُ صُنع اللهِ تَروغُ: للذكرَى تعيشُ! فتَرفَعُني بثلاثٍ:
1 ـ مُعلِّمةُ الفِرنسِيَّة، وقد تقدَّمتُ إليها من 33 سنةً، وكنتُ مُعلِّمَ الإنجليزيةِ في الصفِّ نفسِهِ، بمدرَسةِ بناتٍ، ولم يتَسَنّ أن أُتِمّ، بما حُكِي، حيثُ راحَت بعدَ أيامٍ تراني كأني “مالِكُ بن جَهنّم”، وغابَت بعدَ أسبوعٍ في فَضاءِ الأبد.
2 ـ مُعلِّمةُ العربيّةِ في بني سويفَ، كانت “ضِلعيَّ التَتَريَّ”، حَجَري المُحرَّمَ، عَرَّت روحي، كالهَمَجيِّ، وقَطَّعَتني بجَمالٍ شاملٍ، بمَسحوقِ كارثةٍ على ظَهري، تَضرِبُ ضِحكَتي وتلمُّ عَظْمي، ولا انتَظَرَتني الحياةُ أن يَعرَقَ الحلمُ.
3 ـ امرأةٌ خَشِنةٌ، ماركسِيّةٌ، دلِيلَةُ سائِحِين، بجِسمٍ أوسَعَ قليلاً، مباشِرةٌ فوَّاحَةٌ، طريّةٌ معَ ذلكَ في الفَمِ، لكنها قُنبلةٌ موقوتة، تحمِلُ مِشمِشاً ثمّ تَشِفُّ كالأيقونةِ، وبعدَ مرَّتَين من الاستِقواءِ باللَّعبِ كَمَن يتَضاجَعُ خلفَ قُضبانٍ: لن تراني! فَوَدَّع نايَهُ على الإسفلتِ.)
.
احتَلتُ على المرأةِ: “عندي حلوَى كالشَّهيقِ”، راسِماً مصيرَ حَركتِنا وخَيطَينا المُعطَّرَين، ما بينَ فاعلٍ رَحيمٍ ومفعولٍ رَجيمٍ، بمنظورٍ تجديديٍّ، يتَملّكُ المالِكَ. بُهلُولٌ في الهواءِ، وتَهلِيلٌ تحتَ كَعبِ السماءِ، وخافَ اليأسُ من دَوِيِّ صَفّارةٍ؛ أرفَعُ صَرخَتي لله، وعَظْمي جَرِيحٌ، لأطهو ولِيمَتي، وينفَكُّ القَمِيصُ، بينَ غُصنَين، فوقَ الملاءةِ، صَنَمي ساخِنٌ، كالفُرنِ أغتَصِبُ الركوعَ، أُبعثِرُ في رقَّةٍ، من طَرفِ إصبَعِها، بآليّاتِ أسناني، وأترَسَّبُ. من يَومِها، وأنا أربطُ المرأةَ/ الكلبَ في مِزوَدٍ بالحديقةِ، وأُلاعِبُها وَحدي.
منقوول