بعد تحريض المطالبين بالعرش الأمبراطورى عرض البابا " إينوسان الثالث " تصوره للعلاقة بين الباباوية و الأمبراطورية بقوله : " إن دور البابا هو السهر على أختيار الامبراطور، فهو حين يباركه يقلده السلطة ". ففى رأى البابا أن سلطته فوق سلطة الحاكم
فى أوروبا الأقطاعية، المقسمة بين اقطاعيين أقوياء، كان البابا و الأمبراطور الجرمانى، بادئذى بدء، السلطتين الوحيدتين اللتين تطمح كل منهما إلى أن تسود على المسيحية جمعاء. وشيئاً فشيئاً تغير هذا الوضع مع ظهور مزاحمين جدد.
ففى معظم البلدان، وخصوصاً فى إيطاليا و ألمانيا الشمالية ظهرت مدن تأسست فيها عاميات، و أحياناً أتحدت فى رابطات قوية جداً، وتنظمت فى مدن - دول.
ومن جهة أخرى، فظهرت دول مستقلة: ففى فرنسا و أنجلترا و أسبانيا، ظهر أقطاعى أقوى من الباقين فأتخذ لنفسه لقب الملك، و أضعف سائر الأقطاعيين، ووسع شيئاً فشيئاً منطقة نفوذه. و كان الخلفاء الطبيعيون لهؤلاء الحكام هم بورجوازيو المدن الاثرياء، الذين كانوا هم من مصلحتهم تتقهقر سلطة كبار الأقطاعيين، و أن يتعاطوا مع سيد أو حد.
كان رأس " الأمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة " يعد نفسه وريثاً لشارلمان و للأباطرة الرومان من قبله، لذا كان يطمح إلى أن يبسط نفوذه على أوروبا الوسطى بكاملها، وحاول عن طريق " الرهبان - الجنود "، و أهمهم الفرسان التوتونيون ( من جرمانيا الشمالية ) و الفرسان حاملو السيف، أن يحتل الأراضى الشرقية البعيدة فى روسيا و بروسيا. و بلقبه كان يعتبر أن له حق التصدر على ملكى فرنسا و أنجلترا.
ولم تكن تروق لهذين الملكين فكرة الخضوع للأمبراطور الجرمانى الأصل. ولكن فى غمرة طموحه إلى قيادة المسيحية، وجد الأمبراطور سلطة " عالمية " أخرى تنتصب فى وجهه : إلا وهى سلطة البابا. ففى عرف البابا أن السلطة الروحية أعلى من السلطة السياسية. وفى عرف الأمبراطور أن البابا ليس أعلى منه مقاماً إلا فى القضايا الدينية، وكان لابد لهذا السجال أن يفضى إلى مواجهة مباشرة. والشكل الذى أتخذه هذا الصراع لم يكن هو الحرب، بل نوعاً من لعبة شطرنج عملاقة، ولم يكن بوسع بورجوزيات المدن و الدول الناشئة، أن تلتزم الحياد فى هذه المواجهة، فأنتصرت لهذا أو ذاك من الفريقين.
الرهان على إيطاليا:
المساندة التى أعتطها العاميات اللومباردية القوية لبابا، أدت إلى هزيمة الأمبرطور الكبير فريدريك الأول (باربوس). فبالرغم من تدمير ميلانو، هزم فريدريك فى ليغانو ( عام 1176م) على يد جيوش رابطة المدن اللومباردية. وفى السنة التالية، قدم إلى البندقية لكى يسالم البابا أسكندر الثالث، فأذل نفسه بالركوع علناً أمامه.
ولكن بعد بضعة أعوام، أنقلبت الآية : فقد تم الزواج بين ابن هنرى و كونستانس دو هوتفيل، وريثة مملكة صقلية، مما أعطى للأمبراطورية كل الجنوب الإيطالى.
وكان ذلك بمثابة تهديد خطير للبابا. ولكن من حسن حظ الباباوية أن فريدريك باربروس قضى غرقاً فى جدول صغير خلال الحملة الصليبية الثالثة عام ( 1190م). فساهمت هذه النهاية المأسوية فى ولادة الأمبراطور. فقد أشيع إنه لم يمت. ولكنه نائم فى جبل بألمانيا، و ينتظر الوقت الملائم لكى يعود إلى الظهور فيعيد للأمبراطورية عظمتها. وما أنقضت بضعة أعوام حتى توفى ابنه هنرى الرابع وهو فى ميعة الشباب. وقيض لحفيده فريدريك ان يستأنف المعركة فى سبيل إعلاء شأن الأمبراطورية فى إيطاليا و أوروبا.
فى 5 نيسان ( أبريل ) عام 1242م جرت، على المياه المجمدة لبحيرة بابيوس معركة حاسمة بين الفرسان التوتونيين و الجيش الروسى. وكان الجنود الروس، بقيادة الأمير أسكندر ياروسلافيتش، الملقب باسكندر نفيسكى، و الذى سبق أن تكلل بالمجد حين هزم الجيش السويدى على ضفاف النيفا، إذ كان الجنود الروس ينتظرون الفرسان الجرمانيين على اليابسة، وكان ذوبان الجليد غير المنتظر عند البحيرة لصالحهم : فقد غرق الخيالة التوتونيين المندفعون بحماس....
و ب " معركة الجليد " أنتهت، عملياً حملة الصلبية للرهبان - جنود فى روسيا الغربية، فقد جيش هؤلاء للدفاع عن الصلبيين فى فلسطين، و لكن بعضهم ما لبثوا أن حاربوا فى أوروبا الشرقية، ليس الشعوب الوثنية وحسب، بل كذلك الشعوب المسيحية الأورثوذوكسية ( الروس). وكانوا بالفعل رأس الحربة للتوسع الجرمانى نحو الشرق.
كان معاصروا فريدريك الثانى، الذين ألتقوه، يدركون قيمته الفائقة. فقد كان يبدو، كمثقف وذواقة، وكاتب و شاعر، و محارب مقتدر وحاكم نبيه، إنه يتمتع بكل الحسنات.
كان للأمبراطور، الذى تربع على العرش عام 1212م، نظرة جد واقعية إلى التغيرات التى طرأت على أوروبا. فقد أدرك أن الدول الملكية قد أصبحت مستقلة إلى درجة يستحيل معها أخضاعها بالقوة.
عندئذ حاول أن يبعث هيمنة الأمبراطور بشكل أكثر مرونة، إذ أقترح نوعاً من الحكم الأتحادى. غير إنه لم ينجح فى ذلك. لكنه أنشأ فى صقلية دولة تصهر مختلف الثقافات فى بوتقة واحدة، بعيداً عن مفهوم القرون الوسطى للدولة المسيحية.
تعرض فريدريك الثانى فى طوال عهده لأربع بابوات : اينوسان الثالث، الذى أخذه، وهو طفل، تحت جناجه، وهو نوريوس الثالث، الذى أمبراطوراً ووقف عبئاً فى وجه محاولة فريدريك الثانى لتحويل مملكته الإيطالية الجنوبية إلى دولة متماسكة.
أما البابا الثالث، وهو غريغوريوس التاسع، فحرمه لتأخره عن خوض الحملة الصلبية السادسة، وحرض العاميات الإيطالية ضده عندئذ قام فريدريك بهجوم معاكس، فمنع أنعقااد المجمع الذى كان سيعلن خلعه.
أما رابعهم، اينوسان الرابع، فكان أخطرهم. لقد أستقر فى ليون تحت حماية الفرنسيين، ثم دعا إلى أنعقاد مجمع أعلن فريدريك " جاحداً، و مدنسا" ، وحرمه للمرة الثانية عام 1245.
وهكذا أصبح البابا، وملك فرنسا، وكبار الإقطاعيين الألمان و الإيطاليين، و العاميات الإيطالية جميعاً أعداء فريدريك الثانى.
أنتقلت مملكة صقلية إلى مانفرد، أحد أبناء فريدريك. فأستأنف الصراع و أجتاح الدول الباباوية و أحتل توسكانا التى أحسن سياستها. فأستنجد البابا كليمنص الرابع، بشارل دانجو، ووقع التصادم عام 1266م بالقرب من بينيفان. فهزم مانفرد وقتل. و أستقر شارل دانجو فى جنوب شبه الجزيرة و نقل العاصمة من باليرما إلى نابولى. ولكنه أثار السخط و حركة تمرد شعبية.
عندئذ هب ملك آرغوان بطرس الثالث، لنجدة المتمردين الصقليين. وعلى أثر حملة قصيرة، توصل الخصمان إلى تسوية تقضى بمحافظة الأنجويين على مملكة نابولى و تسليم صقلية إلى ملك آرغوان.
فى حوالى العام الف للميلاد كان العرب لا يزالون يحتلون الجزء الأكبر من شبه الجزيرة الليبرية. و الخلافات و الصراعات التى غالباً ما كانت تندلع بين الأمراء المسلمين، كانت تجعل سيطرتهم سريعة العطب. وهكذا فإن الممالك المسيحية الصغيرة التى تكونت على حدود الأراضى الإسلامية، نحو منتصف القرن الحادى عشر، سرعان ما أنتلقت إلى الهجوم المعاكس.
وقد أطلق اسم ريكونيكيستا أو " الأسترداد" على هذه الحملة التى شنت لأسترجاع الأراضى الأندلسية. و حققوا أول أنتصارتهم فى القرن الحادى عشر بأحتلال مملكة فالانسيا على يد " رودريغو دياث دى بيفار".
و أستؤنف الصراع حتى نهاية القرن الثالث عشر، فظلت القوات المسيحية فى هذه الفترة تقضم المواقع العربية : حيث أحتلت سرقسطه عام 1111م و قطلونية نهائياً عام 1137م.
ولكن سلالة عربية جديدة، هى سلالة الموحدين، القادمين من الغرب، ألنتصرت على ملك قشتالة عام 1195م. وعندئذ رحب الفرنجة جهودهم، بتحريض من البابا اينوسان الثالث، وقاموا بحملة جديدة تحت قيادة ملوك قشتالة و نافار و ارغون، فأحرزوا أنتصاراً حاسماً فى لاس نافاس دى تولوسا، فى 16 تموز " يوليو " عام 1212م.
و أقتضى الأمر بعد ذلك ستين سنة أخرى لكيى يعيدوا أحتلال بقية أراضى شبه الجزيرة. ففى عام 1270م لم يبق للعرب فى أسبانيا إلا مملكة غرناطة الصغيرة فى الجنوب. و التى حافظوا عليها، طوال قرنين، حتى عام 1492م.
ولم تدم الوحدة بين ملوك أسبانيا. فقد وطدت حرب الأسترداد الوحدة الدينية فى شبه الجزيرة، بيد أنها هددت الوحدة السياسية : إذ إنها شحذت روح الأستقلالية و الأعتداد بالنفس لدى طبقة النبلاء، ولدى عاميات المدن، التى كانت متمسكة بإمتيازتها.