مرحبا
المبارزة من أقدم الرياضات التي مارسها الإنسان؛ لأنها ارتبطت بحياته، وكانت أساساً في دفاعه عن نفسه. ويمكن تقسيم تاريخها إلى أربع مراحل متسلسلة:
المبارزة في عصر ما قبل التاريخ:
اخترع الإنسان البدائيّ الأسلحة للدفاع عن نفسه ضدّ الحيوانات المفترسة أو سعياً منه لمهاجمتها لاصطيادها. لذا سعى على الدوام لتحسينها وتطويرها لتأمين قوته من جهة وللدفاع عن مجتمعه من جهة أخرى، فظهرت البلطات والرماح والعصيّ والخوذ والدروع، ولم يكن للأسلحة المصقولة كالسيف والخنجر كبير الأهمّيّة في ذلك الحين؛ لأنها كانت عاجزة عن اختراق الدروع؛ ولأن استخدامها يتطلب خفّة ورشاقة لا تتوافر بمن يرتدي الخوذ والدروع.
المبارزة في العصور القديمة
دلّت دراسة الآثار الفرعونيّة على اهتمام الفراعنة بالمبارزة خاصة بالسيف الذي كان أهمّ أسلحتهم في الحروب. وكان الفراعنة ولعين بالمبارزة، ومارسوها بصور وأشكال شتّى، منها المبارزة على القوارب بين الصيّادين أو المبارزة باستخدام سيقان البرديّ أو السيوف، وكان يقام لذلك مسابقات وبطولات محلّيّة أو دوليّة.
وأظهرت النقوش والصور والكتابات الهيروغليفيّة على جدران المقابر في سقارة والأقصر وأهرامات الجيزة أن الأمراء كانوا أول من مارسها إضافة للنبلاء وقادة الجيوش؛ وذلك لغرس الروح القتاليّة والتقاليد النبيلة في نفوس الجنود والعامّة.
كما أظهرت نقوش المعبد بمدينة حور قرب الأقصر منذ عهد رمسيس الثالث نحو1190 ق.م المبارزَين ممسكين بالأسلحة وقد ارتديا الأقنعة لحماية الوجه. كما ظهر واضحاً في هذه النقوش الحكّام والمشاهدون.
وقد امتاز الجيش الفرعوني في ذلك الحين بكفاية قتاليّة عالية، وكان مزوّداً بأسلحة دفاعيّة وهجوميّة، منها الخوذ والدروع والتروس والرماح والسيوف والأقواس والسهام والدبابيس والمقاليع.
أما الفرس والإغريق والرومان فقد اهتمّوا كثيراً بالمبارزة؛ لأنها كانت أساس قوّة جيشهم في الحروب، وكان المبارزون يستخدمون أنواعاً كثيرة من الأسلحة كالسيف والدرع في منافساتهم على ظهور الخيل أو على الأرض.
وتميّز المبارزون الرومان بشدّة بأسهم وقوّته وكانت المبارزة تنتهي دوماً بموت أحد المتبارزين gladiators. وكان رستم وطماسب من أشهر المبارزين الفرس، وكهركليوس وليونيرس من أبرز المبارزين الإغريق، وهرقل الكبير لدى اليونان.
المبارزة في العصور الوسطى
كان سقوط الامبراطوريّة الرومانيّة عام 476م بداية مرحلة تخلّف وتراجع في أوربا فقد ساد الجهل، وامتنع الناس عن ممارسة الألعاب ومشاهدتها، ومنها المبارزة، واهتمّوا بالدين واللاهوت، وابتعدوا عن الاهتمام بالجسد ومتطلبات قوّته، ومنها المبارزة .
وفي الوقت نفسه كان المشرق العربيّ مهداً لرياضة المبارزة، وكانت المبارزة بالسيف تسلية الفتيان والكبار على حدّ سواء منذ العصر الجاهليّ، وكان السيف رمزاً للشجاعة والنبل والمروءة؛ لذا أطلقوا على المبارزة رياضة النبلاء. وظهر عبر التاريخ العربيّ الطويل أسماء فرسان مشهورين تغنّى بهم الشعراء في ملاحمهم الشعبيّة (مثل سيرة عنترة بن شدّاد وغيرها) بالسيوف والرماح والمبارزة عموماً.
زاد اهتمام العرب منذ فجر الإسلام بالمبارزة والتدريب عليها منذ الصغر لإعلاء كلمة الحقّ والدفاع عن الدين، فبرعوا في استخدام السيف الذي أدّى دوراً حاسماً في غزواتهم وحروبهم، وامتلك الرسول (ص ) سيوفاً عدّة، أشهرها البتّار وذو الفقار الذي صار لعليّ بن أبي طالب( عليه السلام )من بعده. وأدّى السيف دوراً مهمّاً في فتوحات المسلمين، وظهر منهم فرسان ومبارزون أشدّاء، أبرزهم عمر بن الخطّاب وعليّ ابن أبي طالب وخالد بن الوليد وحمزة ابن عبد المطلّب وسعد بن أبي وقّاص وأبو عبيدة بن الجرّاح وعبيدة بن الحارث وطارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبّيّ رضي الله عنهم، وأطلق الرسول(ص ) تسميات شتّى على خيرة الفرسان والمبارزين، فلقّب خالد بن الوليد بسيف الله المسلول.
المبارزة في العصور الحديثة
بعد اضمحلال الدولة العربيّة الإسلاميّة اهتمّت أوربا بالمبارزة، ونظراً لاختراع البارود في تلك الآونة فقد تحولت المبارزة من ميادين القتال إلى ميادين الرياضة والمنازلات والاستعراضات، وطرأت تعديلات كثيرة على فنّ المبارزة وملابسها وأدواتها وملاعبها وخططها.
وقد كان الألمان والفرنسيّون والطليان الأكثر اهتماماً بالمبارزة بالسيف، ومنهم انتشرت في كلّ دول أوربا إذ كانت تمارس من قبل النبلاء وسادة القوم أولاً؛ إلا أن موت بعض النبلاء بسبب المبارزات الدمويّة أدّى إلى منع ممارسة المبارزة، وأصبحت تمارس سرّاً. ومنذ القرن الخامس عشر والسادس عشر افتتحت المدارس في الخفاء لتدريب الراغبين وفق أسس وخطط ونظم خاصة، وظهرت بعض المؤلفات عن المبارزة. ثمّ انتشرت مدارس المبارزة في إيطاليا وفرنسا وألمانيا علناً، وكان يديرها مبارزون محترفون، وتحوّلت المبارزة من دمويّة إلى رياضة، وغدت المبارزة بالسيف رياضة عريقة وذات تقاليد نبيلة يمارسها الإنسان في مختلف الأعمار، وأفضل عمر لبدء تعلّمها بهدف الوصول إلى المستويات العليا هو 9-12 سنة.
صدر في القرن الثامن عشر أول قانون للعبة المبارزة حرص على حماية المتبارزين والحفاظ على أجواء الإثارة في هذه الرياضة. واستخدم القناع المعدنيّ والسترة الخاصّة وتمّ تحديد المناطق التي يمكن للمبارز إحراز النقاط فيها . وتطوّرت الأسلحة، وأصبحت أخفّ وزناً وأكثر اتزاناً مما ساعد في زيادة سرعة حركة نصل السيف والجسم، ودخلت المبارزة إلى الألعاب الأولمبيّة للرجال بدءاً من الدورة الأولمبيّة الأولى في أثينا عام 1896 فيما يتعلق بالسلاح السيف سابر Sabre وسلاح الشيش فويليه Foil. أما سلاح سيف المبارزة ايبيه epée فقد دخل الألعاب الأولمبيّة أول مرّة في الدورة الأولمبيّة الثانية في باريس عام 1900، وبعد ذلك سمح للنساء بالاشتراك في منازلات سلاح الشيش في الدورة الأولمبيّة الخامسة في باريس عام 1924. وتمّ تأسيس الاتحاد الدوليّ للمبارزة عام 1919، وتمّ إدخال التحكيم الكهربائيّ لسلاح سيف المبارزة ايبيه عام 1933، وفي سلاح الشيش عام 1955، وفي سلاح السيف سابر عام 1990 مما جعل التحكيم أكثر عدلاً ودقّة فتطوّرت المبارزة والمبارزون معاً.
يتمتّع ممارسو المبارزة بالعديد من الصفات البدنيّة والذهنيّة والشخصيّة، مثل الجَلَد وسرعة ردّ الفعل والتوافق العضليّ العصبيّ والمرونة والذكاء وقوّة الملاحظة وسرعة البديهة وهدوء الأعصاب والصبر والتحمّل ودقّة التركيز والتصميم والعزيمة والقدرة على تقدير الموقف واتخاذ القرار المناسب؛ لأنها رياضة الهجوم والدفاع بين متنافسين يحاول كلّ منهما أن يسجّل لمسة على الآخر بسلاح المبارزة.