مساجد الصين .. شاهد حي على تجذّر التواجد الإسلامي

يتبع المسلمون في الصين 10 مجموعات عرقية ولغوية رئيسة



توطئة:.
تجدد الحديث في الآونة الأخيرة عن المسلمين و مساجد المسلمين وجذور تواجدهم في الصين ،هذه الأخيرة التي شرعت منذ سنوات في اضطهاد شريحة من المسلمين الإيغور والذين تعود أصولهم إلى العرق التركي، وهم الذين يعتبرون أنفسهم أقرب ثقافياً إلى شعوب آسيا الوسطى.
ويسلط الاضطهاد الديني عموماً والموجه للإيغور خصوصاً من قبل حكومة أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، يسلط الضوء على الحضور الإسلامي في هذا الركن البعيد من العالم، والذين يدين بالفضل للمسلمين في إرساء قواعد التسامح وترسيخ ثقافة التعاون والمصداقية التي كانت السبب الرئيس في انتشار ديننا الحنيف في هذه النقطة البعيدة جدا عن موضع مهبط الوحي على النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

المسلمون في الصين ينتمون إلى عدة أعراق انصهرت جميعهاً في الثقافة الإسلامية الرحبة
الحضور الإسلامي في الصين:.
تبلغ نسبة المسلمين في الصين 1.8% من إجمالي عدد السكان البالغ 1.3 مليار نسمة أي حوالي 23 مليون شخص، بينما تفيد تقديرات أخرى بتجاوزهم لحاجز الـ 30 مليوناً.
يتبع المسلمون في الصين 10 مجموعات عرقية ولغوية رئيسة، تشمل 10 ملايين شخص يتحدثون لغة الهوي و 8.4 مليوناً من الإيغور الذين يتحدثون التركية.
أما الباقون فهم القازاق، القير غيز ، السالار، التتار، الأوزبك، وجميعهم يتحدثون اللغة التركية بالإضافة إلى الدونغشيانغ والبونان الذين يتحدثون المنغولية و الطاجيك الذين يتحدثون الفارسية.

الحضور الإسلامي متجذر في الصين
في هذا التقرير، سنسلط الضوء على أبرز المساجد التاريخية المتواجدة في الصين، مواقعها، نمط معمارها، وأثرها الحضاري والثقافي على محيطها.
مساجد تاريخية في الصين :.
يبلغ عدد مساجد الصين قبل عام 1700 م مائة مسجد، من أصل أكثر من 30 ألف مسجد قائم حالياً تشغل حيزاً يضاهي مساحة تكساس أو فرنسا.
من المساجد الصينية المشهورة تاريخياً؛ مسجد شارع البقر والذي سُمي كذلك لأن المسلمين كانوا متفردين بذبح البقر بعكس جيرانهم من الصينيين الذين دأبوا على ذبح الخنازير، هذا إلى جانب شيان الكبير، وكلاهما من المساجد الأثرية التي يقصدها السياح.

محراب أحد المساجد التاريخية في الصين
أيضاً من المساجد المشهورة مسجد “الصداقة المقدسة” في تشوانتشو ، ومسجد ” العنقاء” في هانغتشو.
مُنحت المساجد السابقة أسماءً تعكس المعتقدات والأساطير الصينية بواسطة مؤسسيها المسلمين الذين وصلوا إلى الصين عبر طريق الحرير البحري.
يُقال إن مساجد في الصين لها تاريخ طويل ولكن من الصعب عادة التأكد من عمر كل منها.
لا أحد يحب الحديث عما حدث خلال الثورة الثقافية، والتي استمرت حتى عام 1976 بوفاة الرئيس ماو تسي تونغ.
فأثناء تلك الفترة ، كانت ممارسة الشعائر الدينية ممنوعة، وتم الاستيلاء على العديد من المباني الدينية لإعادة استعمالها في أغراض أخرى.
تحكي الأحجار المنقوشة في بعض الأماكن قصص المساجد عبر القرون، لكن الكثير مما تبقى منها لا يعود لأبعد من القرن السابع عشر الميلادي، ومعظمها قد تم طلاؤها من جديد مع عمليات إعادة البناء، مما جعلها تختلف كثيراً عن التصميم القديم الأصلي.

مسجد بيجوان في تيانشوي في مقاطعة قانسو.
من أمثلة ذلك؛ مسجد بيجوان في تيانشوي في مقاطعة قانسو الذي كان في قلب هذه التجديدات.
السفراء والتجار المسلمون :.
بعد فترة وجيزة من انتشار الإسلام في القرن السابع الميلادي؛ جاء المسلمون إلى الصين، وقد أتوا كسفراء أو تجار بشكل أساسي.
وصل المسلمون إلى الصين إما براً عبر طُرق الحرير مروراً بآسيا الوسطى، أو بحراً عبر المحيط الهندي من خلال مضيق ملقا.
تزعم المصادر التاريخية إلى أنه في عام 651 م جاء مبعوث عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى محكمة تانج في تشانغان في وسط الصين.
ومع انتشار الإسلام في آسيا الوسطى ومع اعتناق الأتراك للدين الإسلامي؛ أصبحت المدن الموجودة في المقاطعة الغربية سنجان -خلال القرن العاشر الميلادي- مراكز مهمة للثقافة الإسلامية.

مقابر الرجال الذين أدخلوا الإسلام إلى الصين في مدينة لينشيا ، مقاطعة قانسو
وبصرف النظر عن بعض شواهد القبور الموجودة في المدن الساحلية؛ فإن أول دليل مادي على وجود المسلمين في الصين يعود إلى العديد من مساجد القرن الرابع عشر في الجنوب الشرقي والتي أُعيد بناؤها في العصر الحديث.
توسع وانتشار للإسلام:.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين؛ نجح أتباع أفاق خوجة (الذي دُفن في عام 1693 أو 1694 م) خارج قاشجار في مقاطعة سنجان بنشر الإسلام في الشرق ، أي في قانسو و نينغشيا والعديد من المناطق في وسط الصين.
أصبحت مقابر أولئك الأتباع؛ مراكز للتجمعات الدينية والتي شملت أيضاً غرفاً للعبادة والتدريس.
كانت هذه المباني تحمل الأشكال والعناصر الصينية لتتماشى مع الحضارة الإسلامية، ولكن بطريقة قد تُدهش الزوار من العالم الإسلامي الغربي.
على سبيل المثال؛ كانت الكثير من المباني مزخرفة بالنقوش العربية بالإضافة إلى الأشكال الصينية التقليدية.
تُعد مدينة لينشيا في مقاطعة قانسو موطناً لمثل هذه التجمعات، والتي لا تعمل فقط كمراكز للعلماء المسلمين، ولكنها تعمل كواحات للهدوء وسط الحياة الحضرية.

مسجد في مدينة كايفنج – مقاطعة خنان
في القرون الأولى من الإسلام، كان من الصعب على المسلمين في الصين أن يقوموا برحلات طويلة إلى المراكز الإسلامية في الغرب، ولا سيما رحلات الحج إلى مكة المكرمة والتي كانت تستغرق ما يقرب من العامين.
التلاقي الثقافي والمعماري:.
الآن أصبح المسلمون في الصين متصلين مع بقية العالم بشكل أكبر، ويظهر ذلك بشكل واضح في الطُرُز المعمارية حيث أصبحت العديد من مساجد الصين القديمة مقترنة بالعديد من نظيراتها الجديدة البراقة، وغالباً ما تُمول من الخارج، ويخضع تصميمها لما يُعرَف بالطراز “الإسلامي الدولي” المميز بالقباب الخضراء المدببة و المآذن الأسطوانية الطويلة، ولا وجود لأي جذور قديمة لهذا الطراز في الصين.
لقد شاهدنا مثالاً واضحاً للشكل الصيني الأصلي يقع مجاوراً للشكل المستورد في يونجنينج في نينغشيا حيث يقع مسجد “عائلة نا” الذي يطلق عليه أيضاً مسجد نايجاهو بالقرب من حديقة هوي الثقافية التي تأثر مصمموها بتصميم تاج محل الهندي.
تُعد مساجد الصين الجديدة التي تستخدم تصاميم غير صينية أمثلة على التغيُّر في التقاليد الثقافية المعمارية التي طبقت أساسيات مشتركة في التصميم على كل المباني الدينية وغير الدينية على مدى آلاف السنين.
عملت قصور الحكام وأفراد النخبة الآخرين – والتي ما هي إلا منازل ضخمة – كنماذج للمعابد البوذية والكونفوشيوسية ومؤخراً للمساجد.
نتيجة لذلك نجد أن هناك عدد مدهش من المباني الصينية تتشابه كلها مع بعضها البعض.

حرص المسلمون على الحفاظ على قدسية وأصالة مساجدهم رغم التحديات
فعلى سبيل المثال ، قد نجد معبداً بوذياً من القرن التاسع الميلادي، ومعبد داوي من القرن الثالث عشر و مسجداً من القرن الخامس عشر، وقاعة للدفن من القرن السادس عشر، ومسكناً من القرن التاسع عشر الميلادي، وكلها تحمل أوجه تشابه لا لبس فيها.
لماذا تشارك العمارة الصينية العديد من الخصائص في المباني المخصصة لأغراض مختلفة عبر العديد من المناطق الجيولوجية والجغرافية والبيئة المختلفة؟ فبينما أظهرت هذه المباني اختلافات في الحجم وجودة مواد البناء، فإنها لم تُظهر في أحيان كثيرة أي فرق في الغرض الذي بُنيت من أجله.

كان الخط العربي يستخدم عادة في تزيين حوائط المساجد كما يظهر هنا في مدخل مسجد الشرق العظيم.
المرونة:.
المرونة هي واحدة من الإجابات البسيطة على السؤال السابق، وهي ممثلة في بنية المساجد من القرن الرابع عشر إلى القرن العشرين، حيث تم تصميم جميع مساجد الصين باستخدام إطارات خشبية مدعومة بمجموعات من الأقواس الخشبية، كما أنها مُسقفة بالسيراميك، ومجمعة في تجمعات مرتبة بشكل متماثل على طول محاور أفقية حول ساحات مستطيلة؛ موضوعة وراء جدران من الطوب وبوابة رئيسية تتجه إلى الجنوب.
لذلك ، كان تحويل القصر أو مخطط المعبد الصيني التقليدي إلى مسجد في كثير من الأحيان يقتصر على توجيه المساجد ناحية القبلة في مكة ، والذي استغرق وقتاً طويلاً في الصين حتى يُفهم أن الاتجاه إلى الغرب.
تُعتبر قاعة الصلاة المبنى الرئيسي، وتقع في وسط المجمع على منصة كدليل على أهميتها – وهي ممارسة تنفرد بها الصين.
ملحقات بالمساجد:.
على طول جدران الفناء، تجمع المباني الإضافية للغرف الدراسية والمكاتب والوحدات السكنية، فضلاً عن مساكن الموظفين والطلاب والمسافرين – وبذلك يضم مبنى المسجد في الصين جميع الوظائف التي تُمارَس في بعض الأراضي الإسلامية في مبانٍ منفصلة أو متجاورة مثل المدرسة الدينية، والكُتاب، والمسكن والمطعم وما شابه.
معظم هذه الوظائف – التعليم ، الإدارة ، أماكن المعيشة للزعماء الدينيين والزائرين – تظهر أيضاً في المجمعات البوذية والطاوية الصينية.

بعض المساجد تأثرت بنمط المعمار السائد في الصين
علاوة على ذلك، تتميز هذه المباني الصينية التقليدية بأنها منخفضة ، باستثناء الباجودا ، وهو النسخة الصينية من المبنى الهندي البوذي ” ستوبا”، وهو عبارة عن جبل رمزي يحتوي على آثار بوذية. لم تكن المئذنة جزءًا أساسياً من المسجد الصيني التقليدي ، رغم أن البنائين الصينيين حولوا المعبد في بعض الأماكن إلى وانغيويلو أو “برج مراقبة القمر” و كان يقع في وسط فناء المسجد.
لم يكن هذا البرج يستخدم لرفع الأذان للصلاة، بينما كان رفع الأذان ومازال يتم في كثير من الأحيان من مدخل المسجد مع استخدام الميكروفونات حديثاً.

متجر الحلويات الحلال خارج المسجد في هوهوت
بينما يفضل عمال البناء في معظم العالم الإسلامي ذي المناخ الجاف ، الطوب والحجر بسبب ندرة الأخشاب ، إلا أن الأخشاب في الصين كانت متوفرة دائمًا بكثرة. اعتمد البناء الصيني التقليدي على الخشب ، سواء بالنسبة للقصور أو المعابد أو المساجد ، حيث يقوم البناء على أعمدة خشبية تحمل الحزم الأفقية التي تدعم بدورها العوارض الخشبية والسقف.
براعة:.
نمت براعة البناء المعقد لدى الصينيين من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر. فقد تحولت مجموعات الأقواس البسيطة ذات الطبقتين أو الثلاث طبقات في مباني القرن الرابع عشر إلى مجموعات تتجمع في خمس إلى سبع طبقات ، على طول تسع زوايا مختلفة ، بحلول القرن السابع عشر. في نهاية المطاف ، اقتربت الأقواس من بعضهما البعض لدرجة أنه يمكن رؤيتها على أنها المعادل الصيني للمقرنصات ، وهي زخارف ثلاثية الأبعاد على شكل وحدة متكررة على طبقات ، وكل وحدة مدعومة من وحدة أسفلها والغاية الأولية للمقرنصات إنشاء إنتقال معماري بين شكل القبة و البنية المكعبة الحاملة لها (المصدر :
الباحثون السوريون) وهي تزين العمارة الإسلامية من بخارى إلى غرناطة.
الخشب والطوب:.
في حين كان الخشب أهم مادة للبناء ، فقد استُخدم الطوب بشكل مميز للجدران الخارجية المقسِمة للمباني ، وكان البلاط الخزفي يستخدم للتسقيف.و على الرغم من معرفة البنائين الصينيين التقليديين واستخدامهم للأقواس والأقبية ، فإنهم فعلوا ذلك في الغالب في المقابر الموجودة تحت الأرض ، وليس للهندسة المعمارية فوق الأرض.
في المقابل تُشكِّل الأقواس بالنسبة للمسلمين دلالة دينية خاصة ، حيث ظهر المحراب في أوائل العصر الإسلامي بشكل مقوس ، واستمر بهذا الشكل – مع قليل من الاختلافات – حتى يومنا هذا.
ونظراً لنقص أشجار الأخشاب في شمال أفريقيا، والشرق الأوسط ، ووسط آسيا، فقد أصبحت التقنية الشائعة لتغطية أي مساحة هي استخدام قُبة من الطوب أو الحجر، والقباب ما هي إلا أقواس مُلتفة وممتدة في الفراغ.
ويبدو أن الصينيين المسلمين أيضاً قد ربطوا القباب بالإسلام ، حيث وُجدت القباب والأقواس في المساجد الصينية في أهم جزء من المبنى أمام المحراب، وفي أحيان أخرى قام الصينيون بتقليد الأشكال المُقوسة دون التخلي عن الاعتماد الهيكلي للمبنى على الأعمدة والعوارض.

نمط أسقف بعض المساجد
جمعت زخارف المساجد بين الزخارف الإسلامية التقليدية والزخارف الهندسية مع الزخارف الصينية التقليدية لنباتات الفاونيا واللوتس ، والتنانيين والعنقاء. وتُعتبر النصوص العربية أهم ما يميز المباني الإسلامية عن غيرها في الصين ، سواء في المساجد أو الأسواق.

الزهور تظهر في الزخرفة الواقعة في السقف
الخط العربي:.
يعكس الخط العربي في الصين التقاليد الصينية في الكتابة باستخدام الفُرشاة بعكس الأقلام الخشبية التي تُستخدم بشكل تقليدي في الأراضي الإسلامية الأخرى. هناك تداخل كبير بين التقاليد الصينية والإسلامية فيما يتعلق بالزخارف النباتية والزهرية، لكن الصينيين ينفردون بتصوير الشياطين ، حيث يتجنب المسلمون في الأراضي الإسلامية ذلك عادة. بالمثل، تبنى المسلمون في بعض المساجد استخدام البخور مثلما يفعل الصينيون، وفي بعض الساحات يمكنك أن تجد آنية برونزية أو خزفية منقوشة بالعربية والصينية، مليئة بالرمل الذي يحمل أعواد البخور المشتعلة.

الخلاصة:.
تميز التواجد الإسلامي في الصين بالتفاعل مع مختلف العرقيات والإثنيات والأديان التي تنتشر في هذا البلد الآسيوي العملاق.
وكان حضور المسلمين فاعلاً في سائر قطاعات التنمية والمعمار وبناء البلاد التي أضحت ثاني أكبر اقتصاد بالعالم، ولم يسجل لهم أي دور خلافٌ لذلك، بيد أنهم في فترات متباعدة من التاريخ ظلوا عرضة للتغيرات الحاصلة في مزاج السلطات الحاكمة التي ترى فيهم اليوم عاملاً معيقاً لسيادة الفلسفة الشيوعية التي تحكم هذه الدولة منذ عقود.