العراق… شيء من التاريخ / الجزء الأول
كلمة “بلاد ما بين النهرين” هي في الأصل اسم باليونانية تتكونmesos` الأوسط وpotamos نهر أي الأراضي الواقعة بين نهرين.
وكلمة “بلاد ما بين النهرين” بالفارسية القديمة هي Miyanrudan
والاسم بالآرامية هو “بيت النهرين” وهي المنطقة جنوب غرب آسيا.
وضع المؤرخون حضارة بلاد ما بين النهرين بمستوى حضارة مصر وهي غالبا ما تسمى بالهلال الخصيب. والهلال الخصيب هي المنطقة الغنية بالنمو الغذائي في هذا الجزء من العالم حيث معظم الأراضي فيه جافة. وحيث يبدأ الهلال الخصيب من الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وينحني مثل القمر حول الصحراء وصولا إلى الخليج العربي.
ويحتوي الهلال الخصيب على بعض أفضل الأراضي الزراعية في شريط ضيق من الأرض الواقعة بين نهري دجلة والفرات. الأمر الذي يعني أنها حوت العديد من الحضارات المختلفة في هذه المنطقة الصغيرة الأولى جاء بها السومريون، ثم حل محلهم الآشوريين والبابليين.
وبلاد ما بين النهرين هو السهل الرسوبي الواقع بين نهري دجلة والفرات، ويتكون اليوم من العراق وسوريا. ويشمل المصطلح هذا سهول الأنهار في مجملها، وكذلك الأراضي المنخفضة المحيطة التي تحيط بها الصحراء العربية إلى الغرب ومن الجنوب الخليج العربي ومن الشرق جبال زاغروس وجبال القوقاز من الشمال.
تشتهر بلاد ما بين النهرين كموقع لبعض من أقدم الحضارات في العالم. فالكتابات (أوروك، الوركاء الحديثة) من بلاد ما بين النهرين هي من بين أقدم الكتابات المعروفة في العالم، وبلاد ما بين النهرين يعطي سمعة بأنه مهد الحضارات، ولذلك يعتبر انه يحوي أقدم حضارة معروفة.
استقرت في بلاد ما بين النهرين العديد من الحضارات القديمة حيث كان السومريون موطنا لبعض من أقدم الحضارات الرئيسية القديمة، ومع السومريون كان الأكاديون والبابليون والآشوريون قبل 5000 سنة ق.م.
وقد وصلت السامية إلى بلاد ما بين النهرين في 2900 ق.م وبحلول عام 2000 ق.م كانت قد اختلطت سلميا مع السومريين وكانت لهم الهيمنة السياسية.
وكان شعب ميتاني الذي كان يعيش بين الهند وشرق أوروبا (الذي ينتمي إلى مجموعة satemاللغوية) قد استقر في بلاد ما بين النهرين حوالي 1600 ق.م وفي شمال وجنوب شرق تركيا، وحوالي 1450 ق.م تم إنشاء إمبراطورية متوسطة الحجم بين الشرق والشمال والغرب، وأصبحت تشكل تهديدا رئيسيا لفرعون مصر.
قبل 1300 ق.م تم سيطرة الحيثيين، وهم شعب بين الهند وغرب أوروبا والذين ينتمون إلى مجموعة kentum اللغوية وسيطروا على معظم آسيا الصغرى وهددوا مصر أكثر من مرة.
وفي غضون ذلك، أنشأ الكيشيون عالما قويا، في سانغاري، في بلاد ما بين النهرين الجنوبية، وجعلوا بابل عاصمة لهم، لكن تهديد وغزو العيلاميين دمر حضارتهم . وظهر بعدهم الكلدانيون في بابل حوالي عام 600 ق.م.
وتوقفت المنطقة لتكون قوة عظمى منذ إدراجها في الإمبراطورية الفارسية من بابل في الجنوب، وحتى آشور في الشمال.
وبعد فتح بلاد فارس من قبل إغريقيا والملك المقدوني الاسكندر الأكبر أصبحت المنطقة جزءا من الإمبراطورية السلوقية الكبرى، حتى كادت تقضي عليها أرمينيا الكبرى في 42 ق.م.
ثم أصبحت معظم بلاد ما بين النهرين جزءا من الإمبراطورية البارثية وجزء من شمال وغرب البلاد، وأصبحت رومانية تقريبا في المنطقة القريبة من الحدود في العصر الحديث بين تركيا وسورية بينما أكثر بلاد ما بين النهرين أصبحت في زمن الإمبراطورية الفارسية من الساسانيين، وكان لها الحصة الأكبر من بلاد ما بين النهرين ودعيت بايرانشهر بمعنى “قلب إيران” وصارت المدائن الفارسية بمواجهة سليوقيا القديمة عبر نهر دجلة عاصمة بلاد فارس، وبلاد ما بين النهرين.
ثم تم جمع شمل بلاد ما بين النهرين، وخضعت كمقاطعتين: بلاد ما بين النهرين الشمالية مع الموصل وجنوب العراق مع بغداد، عاصمة الخلافة في وقت لاحق.
المناخ في بلاد ما بين النهرين حار جدا، ورطبا جدا ولا يمكن التنبؤ به في كثير من الأحيان بسبب الفيضانات. حيث كانت بلاد ما بين النهرين تحت رحمة بيئة معادية، ويعتقدون أهلها أنهم تحت رحمة الآلهة الغاضبة.
هذه الحضارة التي أنتجت واحدة من عجائب الدنيا السبع للعالم القديم، والحدائق المعلقة في بابل، جمعت أيضا ملحمة جلجامش، وهي صورة متشائمة للبحث العقيم عن الخلود ومعنى الإنسان وارتفاع المدن وسقوط الدول، وسقوط وارتفاع الإمبراطوريات، إلا أن روح الإنسان في بلاد ما بين النهرين كانت تحمله.
بلاد ما بين النهرين لم يكن لديها الحماية من حدودها الطبيعية “الجغرافيا” وأدى ذلك إلى هجرات مستمرة من الأقوام الهندو أوروبية من المنطقة الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين.
وهذا أدى أيضا إلى هجرة مستمرة وانتشار للثقافة، حيث عملية الثقافة القائمة تعتمد على سمات وصفا الآخرين واندماج الاثنين في نهاية المطاف يؤدي إلى ثقافة جديدة
ونتيجة لذلك، فشلت بلاد ما بين النهرين في تطوير حكومة مركزية قوية حيث الوحدة السياسية المهيمنة في “مدينة الدولة”، وهي منطقة صغيرة ذات محيط كبير، كمدينة معقدة من الناحية السياسية الحديثة وتغطي هذا البلد من العراق وأجزاء من سوريا وتركيا.
كانت أنهار بلاد ما بين النهرين (ولا تزال اليوم) متنوعة جدا: فالسهول متموجة في الشمال، حيث يمكن أن تمارس زراعة القمح وتربية الماشية فيها، وكذلك الجنوب الغني في الحياة البحرية والنهرية وحيث أدغال النباتات.
والحياة البرية الغنية على الأرجح هي ما اجتذبت أول البشر إلى سهل ما بين النهرين. فالسهل الجنوبي خارج منطقة المطر المغذي للزراعة، وعلى مدى آلاف السنين وضعت أسفل الأنهار كودائع سميكة بسبب الطمي الخصب، كما انه ينشئ منطقة جذابة وخصبة للمزارعين للحصول على مواد مثل الخشب والحجر والمعادن.ومع ذلك، كان يتعين على الناس أن ينظروا إلى الشمال والشرق والى الجبال حيث نشأت أول المستوطنات.
وبقدر ما يمكننا القول أن المزارعين والصيادين بدءوا بتسوية سهل ما بين النهرين في عصر قبل حوالي عام 5500. وبمرور الوقت، نمت قراهم الصغيرة في مستوطنات كبيرة. وتركزت هذه المجتمعات حول هيكل للإله راعي المدينة أو آلهة.
الأراضي الزراعية الغنية قدمت وجود فائض من السلع الزراعية والثروة المتولدة أي التي تم استثمارها في المباني الأثرية كالمعابد، مثل تلك التي عثر عليها في اريدو، أوروك وأور.
حيث كانت المعابد والمنازل العادية بنيت باستخدام القصب والطين وبعد قرون تم إعادة بنائها باستخدام الطين المجفف، وارتفعت عالية بأكوام الطوب، وارتفعت فوق الحقول والقنوات. وأصبحت تلك تهيمن على سهل مستو لبلاد ما بين النهرين، وعندما تخلى عنها الناس، كانت المواقع التي اختارها علماء الآثار للحفريات الخاصة بهم.
في نهاية الألفية الرابعة، كانت أوروك ربما أكبر مدينة في العالم – حسب تقدير بعض العلماء – بمساحة 400 هكتار وبحجم روما في القرن الأول. وتركزت فيها معبد هام هو إينانا (إلهة الحب العظيم والحرب)، وكشفت المنحوتات الحجرية الجميلة عن معبد المدينة المصور بقطعان الأغنام والماعز.
ألأكثر أهمية تم اكتشاف في أوروك أقرب مسجل للكتابة في العالم. باستخدام قلم القصب للرسم على ألواح من الطين، وسجل المسئولون في الهيكل حركة المنتجات الزراعية والخروج من مخازن المعبد بما فيها الشراب والخبز والأغنام.
في البداية كانت يتم عدها بمحاضر اتخذت على شكل صور للكائنات مع علامات تمثل الأرقام. وتدريجيا، أصبحت هذه الحسابات أكثر مبسطة وبدأت تتخذ شكل كتابة اللغة المحلية المسمارية، أو السومرية.
هذه القدرة على الكتابة سمح للسومريين تسجيل قوائم ليس للبضائع فقط بل أيضا للأحداث من حولهم. وهذا التطور من التاريخ يبين لنا فترة ما قبل التاريخ. وليس فقط أوروك بل مجموعة واسعة لمدن وحضارة بلاد ما بين النهرين الجنوبية.
ويدلل على ثروة تلك الدول القبور الملكية لمدينة أور، والتي تعود إلى حوالي 2600 سنة ق.م. فالآلاف من القبور المحفورة من قبل السير ليونارد وولي في أور في 1920، وخاصة المقابر الملكية الغنية والتي يعتقد أنها حوت قبور الملكات والملوك في أور.
والجانب الأكثر أهمية في هذه المدافن هو العدد الكبير من الجثث البشرية التي وجدت في الحفر. والتي تم تفسيرها على أنها كانت قرابين للموتى ترافق مليكهم في الموت، ويبدو أن ماتوا بصورة سلمية نسبيا. حيث تم العثور في الحفريات على كؤوس من السم وتم تحديد تلك الضحايا كجنود، وعازفو القيثارة والسيدات العاملات في ملابسهم الغنية وبالحلي المصنوعة من الذهب واللازورد والعقيق.
وحوالي 2350 ق.م اكتشفت بعثة أثرية من الولايات المتحدة مدينة تعود إلى إمبراطورية سرجون ملك مدينة أكاد حيث كانت الإدارة مركزية وسامية واللغة الأكادية (التي تحمل اسم عاصمة سرجون) تقدم كلغة رسمية وتفضل على اللغة السومرية. لكن الفترة التي أنتجت مدينة أكد بعض الأعمال الفنية المذهلة، بما في ذلك الأختام الاسطوانية.
حكم سرجون وأبنائه بلاد ما بين النهرين لمدة 150 سنة. وكان آخر الأباطرة في الإمبراطورية الأكادية، ودمرت العاصمة أكاد وبقي موقع المدينة مجهولا حتى يومنا هذا.
وحينما انهارت الإمبراطورية الأكادية كانت بلاد ما بين النهرين في حالة من الاضطراب. وبدأت المدن الجنوبية تأكد استقلاليتها. ومن أهم هذه المشاكل كانت في مدينة أور. تحت حكم الملك اورنمو، الذي أنشئ في المدينة نفسها عاصمة لإمبراطوريته التي كان ينافسه في ذلك الحكام الأكاديون.
وأعيدت اللغة السومرية (على الرغم من أنها لم تعد لغة محكية) بوصفها اللغة المكتوبة الرسمية من السلالة المعروفة للمؤرخين سلالة أور الثالثة. وكان المبنى الأكثر إثارة للإعجاب من حكمه هي الزقورة في أور.
وعلى الرغم من التشابه في الشكل مع الأهرامات في مصر، بقيت الزقورات ليست مقابر مصنوعة من الطوب الصلب كما في أور، فالسلالم الثلاثة المؤدية إلى جانب واحد من البرج بمراحل عدة في القمة كانت مزارا للإله. وقد بنيت واحدة من أشهر الزقورات في مدينة بابل، وكونت قصة برج بابل.
ومثل الملوك السابقين من آكاد، كان حكام سلالة أور الثالثة يقاتلون المجموعات المهاجرة التي تنتقل إلى بلاد ما بين النهرين من الجبال المحيطة والصحارى المحاذية لها، والذين جذبتهم ثروة البلاد.
ونحو 2028-2004 ق.م انهارت الإمبراطورية العامورية والحرانية من قبل القبائل المستقرة في جميع أنحاء بلاد ما بين النهرين. وفي نفس الوقت، حلت اللغة الأكادية محل اللغة السومرية، والتي استمرت باستخدامها من قبل الكتبة فقط عن النقوش الأثرية والكتابات الدينية. للسنوات 300 المقبلة في مدن بلاد ما بين النهرين السفلى، وعلى رأسها آسن وآرسا، وتنافستا على السيطرة للمنطقة.
اما مدينة آشور التي تقع إلى الشمال على نتوء صخري يطل على معبر مهم لنهر دجلة. فالمدينة كانت تسيطر على قوافل الحمير المحملة بالمعادن والخامات النادرة من الشرق والغرب، والزوارق التي تتحرك من والى مدن سومر في الجنوب كمركز تجاري مهم، وبحلول عام 1900 ق.م قامت آشور بإنشاء مستعمرات تجارية في الأناضول (تركيا الحديثة اليوم). حيث تم العثور على القماش الإيراني وجرى تبادل الفضة والقصدير وتسجل المكتشفات الأثرية لهذه الأنشطة على ألواح الطين في عدد من المواقع في تركيا. وكانت المحميات في كثير من الأحيان على شكل رسائل مغلفة من الطين الذي كان يكتب اسم المستلم ومختومة بختم اسطوانة. وفي أمثلة أخرى، تكتب على نسخة على هذه الرسالة وعلى المغلف كضمان.