الحضر: مملكة أسقطتها قصة حبّ!
في شمال العراق، وفي قلب السهل الممتد بين نهرَي دجلة والفرات، ظهرت المدينة التي عرفت بـ "المدينة الصحراوية السمراء"، و"مدينة الشمس"، و"روما الشرق"، لكنّها لم تكن مدينة فحسب، إنما مركزاً لواحدة من أقدم الممالك العربية التي ظهرت في الهلال الخصيب خلال عصور ما قبل الإسلام، فما هي قصتها؟ وما هي حكاية سقوطها العجيبة؟
في القرن الأول قبل الميلاد ظهرت الحضر كمركز حضريّ وديني للقبائل العربية في العراق وراكمت ثروات كبيرة
بعد اضمحلال الإمبراطورية الآشورية نهاية القرن السابع قبل الميلاد، ازدادت مقدرة القبائل العربية على الانتقال والتحرك شمالاً باتجاه مناطق الفرات والعبور إلى ما وراءه، وصولاً حتى نهر دجلة، وفي هذه السهول وجدوا المراعي الخصبة والمياه الوفيرة ما شكل عامل جذب مستمراً عبر القرون التالية، وفي القرن الأول قبل الميلاد؛ ظهرت "الحضر" كمركز حضريّ لهذه القبائل، وعاصمة دينية جمعت فيها معابد أهم آلهتهم.
وكان المنعطف الأهم الذي أدى إلى ظهور الحضر وبروزها؛ اندلاع الحروب بين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية الفرثية، في الفترة من عام 69 ق م وحتى عام 36 ق م، حين بدأت تكتسب أهمية لكلّ من الإمبراطوريتين باعتبار موقعها الحدودي بينهما، فباتت بمثابة خط الدفاع الأول في المواجهة.
من أطلال مدينة الحضر
عهد الملوك
في حدود منتصف القرن الثاني الميلادي حصل التطور الأهم في تاريخ المدينة مع تحولها إلى مركز لمملكة تحكم المنطقة السهليّة الممتدة بين نهري دجلة والفرات، وعرفت في المصادر التاريخية باسم مملكة "حترا"، و"مملكة عربايا"؛ أي مملكة العرب والمملكة العربية، وكان حاكمها، ولجش بن نصرو (158- 165م)، هو أول من اتخذ لقب الملك، ومن ثم خلفه شقيقه الملك سنطروق الأول (165- 190م)، الذي لقب بـ "ملك العرب"، بحسب ما تظهر النقوش في مباني الحضر، ومع ازدهار النشاط التجاري وبروز المدينة كمركز على طرق التجارة، أمر سنطروق بصكّ أول عملة عرفتها المملكة، ونُقِش عليها عبارة "هترا مدينة الشمس".
أما الملك الثالث؛ فهو الملك عبد سميا (190- 200م)، وهو ابن سنطروق الأول، ثم جاء الملك الرابع، والأخير، سنطروق الثاني (200-241م)، الذي حكم ما يزيد عن أربعين عاماً، وتمكّن من توسيع المملكة، فامتدت في عهده إلى ما بعد نهر الفرات في الغرب، ووصلت إلى تخوم بلاد الشام الخاضعة حينها للحكم الروماني.
عملات برونزية مصكوكة في الحضر من الفترة بين (117-138م)
مركز حضاري وديني
تراكمت ثروات كبيرة في الحضر بسبب موقعها على طرق التجارة وخط مرور القوافل التجارية، وانعكس ذلك في ازدهار العمارة والفنون فيها، فكانت تجاري كبرى المدن في زمانها، ووجد فيها الحمامات الساخنة، والتماثيل والمنحوتات والفسيفساء.
وبرزت مكانة الحضر باعتبارها مركزاً دينياً مهماً على مستوى المنطقة، فكانت تضم عدداً من المعابد والتماثيل لأهم الآلهة المعبودة، وقد ضمّت خليطاً من تماثيل الآلهة الإغريقية والآشورية والبابلية والعربية؛ فنجد فيها منحوتات وتماثيل لـ "نرغال"، وهو من أهم الآلهة التي كانت تعبَد في بلاد ما بين النهرين القديمة؛ في أكّاد، وآشور، وبابل، و"هيرميس"، رسول الآلهة الإغريق، و"اللات"، التي عبدها العرب قبل الإسلام، و"أترعتا"، وهو من الآلهة التي كانت تُعبد في الجزء الشمالي من سوريا، وكذلك عند الأنباط في جنوبها، و"أوتو"، إله الشمس بحسب الميثولوجيا السومرية، و"بعل شميم"، رب السماء في عموم سوريا.
الواجهة الأمامية لأحد المعابد في المدينة
صمود أمام إمبراطوريتين
صمدت مدينة الحضر فترة طويلة أمام هجمات كلّ من الرومان والفرس، بفضل تحصينها ودفاع سكانها المستميت عنها، وكان أشد ما تعرضت له حصار الإمبراطور الروماني تراجان لها، عام 116م، وحصار الإمبراطور الروماني أيضاً، سبتيموس سيفيروس، عام 198-199م، بعد أن تمكن الاستيلاء على أجزاء واسعة من العراق الفارسيّ، إلا أنّها صمدت وظلّ الرومان عاجزين عن إخضاعها، وفي عام 238م هزمت الفرس الساسانيين في معركة شهرزور؛ وبذلك ظلت فترة طويلة عصية على الإخضاع من قبل كلّ من الإمبراطوريتين.
الخيانة.. السقوط
عام 241م؛ جمع الإمبراطور الساساني، شابور الأول (حكم في الفترة بين 240-270م)، جيوشاً وسار إلى الحضر، وفرض عليها حصاراً، استمر بحسب بعض الروايات مدة عامين، وبسبب حصانة المدينة لم يبدُ أن هناك فرصة لسقوطها، وأنّها ستصمد مرة أخرى من جديد، إلا أنّ كلّ شيء انقلب عندما خرجت النضيرة، ابنة ملك الحضر، من بيتها، لحاجةٍ لها، وكانت، كما تقول الروايات، أجمل نساء زمانها، فرآها شابور ورأته وأحبا بعضهما من مجرد نظرة، ثم أرسلت إليه تقول: "ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به هذه المدينة؟" فقال: "أجعلك الملكة"، فكان أن دلّته على موضع نفق يمكن الدخول منه واجتياز الحصن، وهكذا، تمكّن الفرس من دخول المدينة، وقام شابور بقتل الملك، ودُمرت الحضر، وحُظِر على أهلها حمل السلاح، وأصبحت ضمن أملاك الإمبراطورية الفارسيّة.
أما النضيرة فأخذها شابور وأعرس بها في مدينة عين تمر القريبة، وتذكر الروايات أنها بقيت طوال الليل تتقلب منزعجة في فراشها، وكان من حرير محشو بريش النعام، فأراد شابور معرفة سبب انزعاجها، فإذا هي ورقة آس (نبات ريحان) التصقت ببطنها، ويروي الطبري أنّها قالت له: "لم أنم قط على فراش أخشن من فراشك"، فقال: "ويلك! وهل نام الملوك على فراش أنعم من فراشي؟"، وسألها: "بماذا كان أبويك يغذيانك؟"، قالت: "بشهد الأبكار من النحل"، عندئذٍ قال غاضباً: "أنت ما وفيت لأبيك مع حسن هذا الصنيع! فكيف لي إذاً أن أثق بك زوجة؟" ثم أمر بقتلها!
نحت يظهر سابور فارساً والملوك يخضعون له.. من موقع "نقش رستم" الأثري
روايات متضاربة
عند الوقوف على الروايات المختلفة لقصة سقوط الحضر، يلاحظ وجود اختلاقات عدة بين الروايات التي تؤرخ للحادثة. بدايةً؛ هناك اختلاف حول المقصود بـ "سابور"، فتارة يكون الإمبراطور "سابور ذو الأكتاف"، وتارة أخرى يكون "شابور الجنود"، قائد الجيش، وتارة أخرى يكون سابور بن أردشير الأول، وهو سابور الثاني، مختلف عن سابور ذو الأكتاف، وهناك اختلاف أيضاً حول اسم ملك الحضر، فهو في رواية سنطروق، وفي رواية أخرى يرد باسم عربي، هو "الضيزن بن معاوية"، إضافة إلى الاختلاف حول مدة الحصار بين عامين إلى أربعة أعوام.
وهناك أيضاً اختلاف حول طريقة فكّ الحصار، ففي رواية ذكِر أنّ الحضر كانت مدينة محمية بالطلاسم، وأن النضيرة كشفت لشابور كيفية فك الطلسم: "عليك بحمامة مطوقة ورقاء ثم أكتب عليها بحيض جارية ثم أطلقها، فإنّها تقف على حائط المدينة فتتداعى المدينة كلها"، وهو ما فعله شابور، بحسب الرواية، وفي روايات أخرى، أكثر منطقية؛ ذكر أنّها دلّته على موضع نفق سريّ.
ضمّت الحضر خليطاً من تماثيل الآلهة الإغريقية والآشورية والبابلية والعربية وظلت فترة طويلة عصية على الإخضاع
وبعد كل ذلك، هناك اختلاف حول طريقة قتل النضيرة، فبين رواية تقول إنّ شابور أمر رجلاً فركب فرساً جموحاً وربط جدائلها بذنب الفرس، ثم ركض بها فتقطعت قطعة قطعة، وأخرى تقول إنّه شدّها بين فرسين انطلق كلّ منهما باتجاه.
ويرى الباحث في التراث العربي، محمد البشتاوي، والذي صدر له عام 2015 كتاب "ليس مجرد سرد؛ أصل الحكاية في التراث العربي"، أنّ "حكايات كثيرة في التاريخ العربي قبل الإسلام عموماً يشوبها الكثير من الخلط والكثير من التناقض بين رواية وأخرى"، ويضيف: "خلال بحثي، وجدت في كتابي "ليس مجرد سرد؛ أصل الحكاية في التراث العربي" أنّ الحكايات كانت في غالبها تقوم على طابع قبليّ؛ أي كان يسودها عنصر الانتقام والثأر، وقد تم نقل هذه الحكايات وكأنها تاريخ، مثلاً عندما نقرأ في تاريخ الطبري قصة الزباء والأبرش، أو سنمار، أو الزير سالم، أو غيرها من الحكايات، نجدها تروى وكأنّها تاريخ، دون التحقق من صحتها، أو ما إذا كان قد وقع لها تحريف وتبديل".
ويعلق البشتاوي في تصريح لـ "حفريات"؛ على نقطة متصلة: "وأشير أيضاً إلى أنّ هناك اختلالاً بين تناول المؤرخين العرب لتاريخ العرب مع الفرس مقابل تاريخ العرب مع الرومان، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ المؤرخين العرب توسعوا في الاعتماد على المصادر التاريخية الفارسية في حين أهملوا الموارد التاريخية السريانية والرومانية، فكان تناول جانب العلاقة التاريخية العربية مع الرومان واليونان موجزاً مقابل الإطناب الذي حظيت به علاقة العرب ببلاد فارس".
وحول أسباب وقوع الاختلاف في الروايات فيما يخصّ تاريخ العرب قبل الإسلام عموماً، يرى البشتاوي أنّه يمكن إيجازها بالآتي: "نجد السبب بدايةً في كون المؤرخين قد نقلوا تاريخ العرب قبل الإسلام من خلال المصادر غير العربية؛ الفارسية والسريانية واليهودية، وكان نقلاً لا يتّسم بالدقة، وكانوا ينقلون الروايات بعلّاتها دون تدقيق وتمحيص وبحث، وأنّ المؤرخين العرب اهتموا فقط في ما يمهد للإسلام وظهور الدين الجديد، من عادات وتقاليد وأخلاق وأحداث تتصل بالإسلام، إضافة إلى أنّ اهتمام المؤرخين العربي انصب وتركّز على تاريخ ظهور الإسلام حتى العصر الذي عاشوه، اهتمامهم الأكبر كان يتعلق بتاريخ الإسلام؛ كونهم مسلمين، فمن الطبيعي أن يكونوا ميالين للاشتغال بتاريخ الإسلام".
تحطيم آثار الحضر عام 2015 على يد مقاتل من تنظيم داعش
لكنّ قصة الحضر لم تنته عند تدمير الفرس لها منتصف القرن الثالث الميلادي؛ ففي القرن الواحد والعشرين أيضاً كان لها موعد جديد مع التدمير، وهذه المرة بأيدي مقاتلي تنظيم داعش، إبّان سيطرته على مساحات واسعة شمال العراق في الفترة (2014-2017م).