كيف روت الأساطير العراقية القديمة قصة طوفان نوح، وكيف روتها الكتب المقدسة

يرد حدث "الطوفان الكبير" كجزء من قصة التكوين والهجرات في ثقافات وحضارات مختلفة، وقد رصد الباحثون ما يقارب 500 أسطورة عن الطوفان، في أنحاء العالم، تنوعت بين سرديات دينية وأساطير تاريخية وتراث شعبي؛ تهتم المقالة بمتابعة صيغتها في الشرق القديم والديانتين اليهودية والإسلامية.
السرد القرآني والسرد التوراتي
الطوفان هو أحد أبرز موضوعات القَصَص الديني سواء التوراتي أو القرآني، حيث تتناول فكرته المشتركة بين الكتابين، التوراة والقرآن: قيام نوح بدعوة الناس للرجوع إلى الإيمان بالله وطاعته، ومكوثه بينهم قروناً يدعوهم، وعصيانهم له، فمعاقبة الله لهؤلاء القوم بتسليط الطوفان عليهم لإفنائهم، ثم بدء الحياة البشرية من جديد بنوح وآله ومن آمنوا معه. وإن اتفق السرد القرآني مع ذلك التوراتي في الملامح العامة للقصة فإنهما يختلفان في التفاصيل حيث تنفرد الرواية التوراتية بتفاصيل مثل مقاييس السفينة وأسماء أبناء نوح ومدى ارتفاع مياه الطوفان وغيرها. بينما تركز الرواية القرآنية على الجدل بين نوح وقومه ثم نوح وابنه الذي رفض الإيمان معه وحاول الاعتصام بالجبل، وتنفرد بذكر آلهة القوم: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر. وكذلك بذكر دعاء النبي على قومه بالهلاك واستجابة الله له بتسليط الطوفان، فضلاً عن اختلاف الروايتين في شأن زوجة نوح حيث يأمره الإله في الرواية التوراتية بحمل إمرأته معه بينما يذكر القرآن أنها كانت كافرة، مما يعني بأنها كانت من المغرقين. كما نجد اختلافاً أساسياً في أن نوحاً في التوراة قد حمل أهل بيته فقط، بينما نقرأ في القرآن أنه كان معه من آمنوا به. ومن ضمن المقارنات أنّ القرآن يذكر أن نوحاً قد لبث يدعو قومه لمدة 950 سنة، بينما يرد في التوراة أنه قد دعاهم لطاعة الله لمدة 600 سنة ثم عاش 350 سنة بعد الطوفان. وأخيراً تنفرد التوراة في ذكر قيام نوح بإطلاق الطيور بعد انتهاء الطوفان ليستكشفوا الأرض ويخبروه ما إذا كانت صالحة للحياة، فعادت له الحمامة بغصن زيتون أخضر، وهو المشهد الذي تحول إلى أيقونة عالمية ترمز للسلام. ولكن لم تقتصر رواية هذا الحدث الكبير على الكتابين المقدسين، بل حملت أساطير حضارات العالم القديم بدورها قصصاً عنه، لعل أبرزها وأكثرها إثارة هي تلك التي أورثتنا إياها كلٌّ من حضارتيّ سومر وبابل في العراق القديم.
الطوفان السومري
في فترة "فَجر السلالات الأولى" من ملوك حضارة سومر بجنوبي العراق القديم، دُوِنّت قصة الطوفان الأولى. ولكن اللوح الذي دونت عليه القصة والذي نشر نصه الباحث والعالم الألماني أرنو بوبل سنة 1914م، بعد العثور عليه قرب مدينة "عفك" العراقية (جنوب وسط العراق وتتبع محافظة القادسية)، كان مشوهاً فلم يقدم تفاصيل كاملة عن الطوفان السومري، ولم يعثر على تلك الرواية في أي من الألواح الأخرى المكتشفة، مما جعل عالم الأثار العراقي طه باقر يتساءل إن كانت قصة الطوفان تلك من أبرز المآثر الأدبية السومرية.
القصة السومرية يسردها لنا الباحث السوري فراس السواح في كتابه "مغامرة العقل الأولى – دراسة في الأسطورة سوريا، أرض الرافدين"، فيذكر أن بداية النص كانت مشوهة لا يُفهَم منها إلا أن الآلهة قد خلقت البشر وجعلت لهم خمس مدن كبيرة هي في التاريخ الواقعي مراكز الحضارة السومرية، ثم هناك مقطع غير مقروء من النص، وبعده تتابع القصة أن الآلهة قد قررت إفناء البشر بالطوفان. لكن النص يبين أن الآلهة لم تكن كلها راضية عن هذا القرار، فبينما يقره "آنو" أبو الآلهة و"إنليل" كبير المجمع الإلهي، فإن "إنانا" آلهة الحب والخصوبة "ناحت على شعبها" و"ننتو" الأم الكبرى "بكت كإمرأة في المخاض"، و"إنكي" إله الحكمة "فكر ملياً وقلب الأمر على وجهه" وقرر أن ينقذ البشرية من الفناء. في ذلك الوقت كان يحكم مدينة شوريباك-أهم مدن سومر قرب "الوركاء" بمحافظة المثنى حالياً بالعراق ــملك اسمه "زيوسودرا" (ومعناها "الخالد" أو "ذو العمر الطويل" مما يرجح اكتسابه الاسم بعد الطوفان). وكان قيّماً على المعبد ودائم تقديم القرابين للآلهة، فكما تقول القصة، أوحى "إنكي" له في منامه أنه يقف عند جدار وأنه يسمع إنكي من وراءه يقول له "سأقول كلاماً فاتبع كلامي... أعطِ أذناً صاغية لوصاياي... إنا مرسلون طوفاناً من المطر فيقضي على بني الإنسان... ذلك حكم وقضاء من مجمع الآلهة... أمر آنو وإنليل... فنضع حداً لملكوت البشر".

ما بعد ذلك من النص مشوه، ثم يجد القارىء أن الطوفان قد وقع بالفعل وأن السيول قد غطت الأرض لسبعة أيام وسبع ليال والسفينة تحملها الأمواج، ثم انتهى الطوفان، ففتح زيوسودرا نافذة في السفينة لتتسلل منها أشعة "أوتو" إله الشمس، وسجد زيوسودرا لأوتو وقدم أضحيتين واحدة من الغنم والأخرى ثور. وبعد فقرة غير مقروءة من النص، يتضح من الأجزاء السليمة أن كلاً من آنو وإنليل قد عطفا على زيوسودرا، فهبطا إليه فسجد لهما، ومنحاه الحياة الخالدة، ثم نقلاه ليعيش في "أرض دلمون" (البحرين حالياً) وهي بمثابة الجنة الأرضية السومرية حيث يعيش أناسٌ منتقون (وليست مرتبطة بما بعد الموت بعكس بعض العقائد الأخرى).

الطوفان البابلي
ترك البابليون ثلاث روايات للطوفان، أقدمها تم العثور عليها في حفريات مدينة "نيبور" البابلية القديمة، شمالي مدينة عفك العراقية في محافظة القادسية حالياً، وترجع للدولة البابلية القديمة. وهي نص مشوه إلى حد كبير، لا يفيد سوى بالإبلاغ أن ثمة طوفان سيحدث. والرواية الثانية هي "ملحمة أتراخيسيس" وهي شبيهة بقصة زيوسودرا إلا أنها تتحدث عن قرار "إنليل" بتقليل تعداد البشر نظراً لانزعاجه من ضوضائهم، فيسلط عليهم أولاً الأوبئة والطاعون والمجاعات والعقم، ويتعامل أتراخيسيس بأسلوب "سياسي" مع الأزمة فيأمر رعيته بعدم تقديم القرابين للآلهة سوى للإله "أيا" (إله الحكمة المعادل لـ"إنكي") الذي يعطف على البشر ويراجع إنليل في أمرهم، ثم يقع الطوفان ولكن النص يتشوه بعد ذلك فلا نعرف ما الذي جرى، وإن كان يمكن استنتاجه بحكم تعاطف إيا/إنكي مع البشر وتواصله مباشرة مع أتراخيسيس.