قصة الآشوريين عن برج بابل “بوابة السماء”
ما الذي ألهم الآشوريين في بابل لتسجيل هذه القصة وما الذي تضمنته النصوص الأصلية منها؟
توطئة:.
لبرج بابل قِصَصٌ وحِكاياتٌ نسجت خيوطها مختلف مختلف الألسن واللغات، وكل منها أضاف أو حذف جزءاً من القصة بشكل جعل العلماء في حيرة من أصل هذا الصرح المعماري والحكمة من بنائه.
ومن أبرز ما ذكر عنه هو ما ورد في سفر التكوين في العهد القديم، حيث تم ذكر الزمن الذي بدأ فيه البشر بالهجرة نحو شرق الأرض وتحديداً نحو بلاد الرافدين، تلك المنطقة التي سماها العهد القديم بسهل شنعار (شنعار في اللغة العبرية تعني أرض النهرين).
كما أن لشنعار معنىً آخر؛ حيث عُرفت لدى الأكاديين بأرض السومريين، وهي البلاد التي نعرفها في عصرنا الحالي باسم العراق.
في الواقع يظن بعض العلماء والمؤرخين أن أصول اللغة العبرية قد يرجع إلى الحضارات التي عاشت على ضفاف نهري دجلة والفرات.
رسوم تتخيل عملية بناء البرج – الميتروبوليتان
وتقول القصص القديمة إن أهل شنعار خافوا على مصير لغتهم خشية تفرقها وضياعها في أرجاء الأرض، ليقرروا بناء مدينة في قلبها برج يرتفع نحو السماء، وهو الأمر الذي أغضب الآلهة.
بابل وما أورده العهد القديم بشأنها:.
هذه المدينة التي تُعرف باسم بابل، تعني في الأكادية “بوابة الله”، وفي العبرية تعني الصوت غير المفهوم، أي اللغة الغريبة.
فيما يلي بعض المقتطفات التي أُخذت من ترجمات لسفر التكوين (العهد القديم) والتي تقول:
- على سطح الأرض كلها كان هناك فقط لغة أولى واحدة وكلمة أولى.
- ولما سافرا باتجاه الشرق وجدا سهلاً في شنعار فسكنوا فيه.
- قالا لبعضهما: دعنا نصنع طوب البناء ونحرقهُ جيداً، فصنعا الطوب القرميدي واستعملا الوحل للربط بين أحجاره.
- قال أحدهما للأخر: دعنا نُشيِّد مدينة وبرجاً، يصل إلى أعلى السماء. ولنتخذ لنا اسماً حتى لا نتشتت في أنحاء الأرض كلها.
- فنزل الرب ليرى المدينة والبرج الذيّن بناهُما بني البشر.
- فقال الرب: ها هو الشعب الأول الذي يمتلك لغة أولى، وهذه المدينة هي ما بدأوا فعله، والآن لن يُحجب عنهم شيء وهذا هو ما سعوا لأجله.
- فهيا ننزل إليهم، ونخلط لغتهم حتى لا يتمكنوا من فهم بعضهم البعض.
- لذلك فرقهم الرب إلى خارج مدينتهم وانتشروا في كل أنحاء الأرض تاركين خلفهم بناء المدينة.
- ولهذا السبب سُميت ببابل، لأن الرب قد شوش اللغة الواحدة وقام بتفريق الشعب الأول ونشره في كل أنحاء الأرض خارج المدينة الأولى.
البرج حينما اكتمل تشييده
ما بين الأسطورة والنقوش:.
هذه كانت الأسطورة العبرية لتكوُّن الشعوب ووجود اللغات الجديدة، وقد أثبت علم التاريخ والآثار أن مفهوم انتشار اللغات ليس فريداً كما توقعنا.
وفي هذا الصدد، كان عالم الآثار جورج سميث – الذي ترجم ملحمة جلجامش لأول مرة خلال القرن التاسع عشر- يطرح توثيقاً رائداً لما سماه بـ “الفيضان العظيم”.
فبعد ترجمته لملحمة جلجامش؛ توجه سميث نحو مدينة نينوى ليتابع عمليات التنقيب آملاً الوصول إلى أي آثار تقدم معلومات موازية أو تربط بين الحقيقة وحكايات العهد القديم.
مع أن علم الآثار التنقيب كان في القرن التاسع عشر علماً حديثاً يقوم على التحقق من صحة ما ورد في الكتب المقدسة وخاصة العهد القديم (سفر التكوين)، لكن التوفيق لعب دوره ووقف على جانب سميث حينما عثر في مواقع التنقيب على عدة ألواح طينية إضافية (وجدت اليوم في مكتبة أشور بانيبال الملكية) حيث كتب فيها قصصا يمكن أن تكون قد ألهمت وكُتبت في الكتاب المقدس عن برج بابل، وفيما يلي بعض النصوص المفهرسة والمحفوظة بعيدة عن أعين الزوار في قبو المتحف البريطاني:
…. هم؟ الأب…
منه هو، فقد ملأ الشر قلبه،
فقد كان شريراً ويقف ضد والد كل الآلهة…
منه هو، فقد مُلأ قلبه الشر،
… وجلبت بابل إلى نفسها العبودية والخضوع..
فقد كان الصغير والكبير يشوش ويربك في حديثه..
جلبت بابل إلى نفسها العبودية والخضوع
وكان الصغير والكبير يشوش ويربك في الحديث
والمكان العظيم (البرج) الذي بنوه في النهار
مكانهم القوي هذا كان في الليل
قد انتهى بشكل تام.
في غضبه كان هناك أيضاً كلمة وقد ألقاها:
حتى يبعد الجميع عن وجهه
لقد أعطى ذلك، وأمر به، وقد كان المدافع عنهم في حيرة
…. المسار الذي كسره
…. هو رسوخ المعبد.
تعليق سميث:.
هذا النص الذي كان مكتوباً على نقش؛ قام العالم جورج سميث بتقديم تعليق يلخص المقصود منه، مسلطاً الضوء على الكلمات المفصلية التي توضح ما الذي حدث:
“توضح غضب الآلهة نتيجة لخطيئة العالم، وهذا المكان الذي ذكر في اللوح هو بابل، هذا البناء العظيم “البرج” أطلق عليه في الألواح كلمة “تازيمات” أو قد تلفظ بـ ” تازيمتو” والتي تعني القوي. يوجد في النص علاقة غريبة فيما بين السطر (9 إلى 11) تفيد بأن ما بناه أهل المدينة في النهار، قام الإله بتدميره في الليل”.
أسرار كبيرة تميط النقوس اللثام عن بعضها
وهنا يظهر التشابه الواضح بين الروايات التوراتية والقصص الآشورية، حيث تقوم كلاهما على أساس الحديث عن الجنس البشري الأول الأوحد، وعن اللغة الأولى الواحدة، وعن البرج الذي تم تشييده فغضبت الآلهة منه، الأمر الذي أدى إلى تشويش اللغة وتنوعها.
كانت هذه القصة الأشورية شبيهة بالقصص التي كُتبت على الألواح الطينية الأخرى التي عُثِرَ عليها في نفس الموقع، والتي يُظن أنها كانت نسخاً عن ألواح طينية أقدم ربما تتضمن معلومات أشمل، وتظل اليوم العديد من الأسئلة المطروحة حول كل من القصص العبرية والآشورية، فما الذي ألهم الآشوريين في بابل لتسجيل هذه القصة وما الذي تضمنته النصوص الأصلية منها؟ كلها أسئلة بعيدة المنال ولا أحد يعلم إجابتها.