عندما سقطت جوهرة الشرق بغداد بيد المغول
كانت دار السلام في العصور الوسطى؛ منارة ثقافية يقصدها كل باحث عن العلم والمعرفة
تاريخ عظيم:.
عندما ننظر في التاريخ العظيم الذي تمتلكه مدينة بغداد وخاصة حينما تألقت بالعلم والمعرفة إلى جانب كونها عاصمة للسلطة العباسية لقرون عديدة؛ فإن أحداً لم يكن يتوقع ماذا كان سيحدث لها في سنة 1258 للميلاد، وكيف تم الإجهاز على العصر الذهبي الإسلامي على يد المغول الذي تمكنوا من دار السلام خلال 13 يوماً من وصولهم إلى حدودها.
ما كتبه المؤرخون وتناقلته الحكايات عن تلك الواقعة؛ أن لون دجلة العظيم قد استحال يومها ليصبح أسود اللون، كالحاً كلون الحبر الذي كُتبت به آلاف الوثائق والمخطوطات الفريدة التي ألقاها المغول بكل وحشيتهم في النهر، ليدمروا أكبر مكتبة عرفها العالم في ذلك العصر والتي تُعرف بـ ” دار الحكمة”، محققين أكبر خسارة علمية يشهدها التاريخ المعروف.
رسم تصوري لمكتبة بيت الحكمة
في الحقيقة لم تكن وحشية المغول موجهة نحو مكتبتها العظيمة وعلومها فحسب، بل إن الجائحة تمثلت أيضاً في قتل عشرات الآف مواطني العاصمة العباسية، وهنا تتأرجح تقديرات الخسائر، فالبعض يقدرهم بنحو 90 ألفاً، بينما قال آخرون إن زهاء 200 ألف شخص من سكان دار السلام قد قضوا خلال أقل من أسبوعين من وصول المغول إليها، ليكتبوا بذلك صك وفاة منارة الثقافة الإسلامية وأيقونة العلم فيها.
مدينة العلوم:.
كانت بغداد مدينة هادئة تتربع على كتف نهر دجلة ويحترف أهلها الصيد فيقتاتون منه، إلى أن قام الخليفة العباسي المنصور الأكبر سنة 762 م باعتمادها كمقر لخلافته، فتوسعت المدينة وبدأت تزدهر ووصلت ذروتها في تلك اللحظة التي قام فيها حفيد المنصور، الخليفة هارون الرشيد باستدعاء كل من العلماء، الشعراء والفنانين إلى المدينة، مما أثراها وجعلها منارة ثقافية يقصدها كل باحث عن العلم والمعرفة في العصور الوسطى.
المدينة جمعت كبار علماء الدنيا
كل هؤلاء العلماء ومن تلاهم؛ نقلوا معرفتهم للأجيال اللاحقة عبر كتابة الأطروحات والمخطوطات التي أحاطت في كل جوانب العلوم والحياة، لتجمع بغداد حينذاك خلاصة العلم وتطوره طيلة الفترة الممتدة بين القرنين الثامن ومنتصف الثالث عشر الميلاديين.
في كتابة هذه المخطوطات ونسخها؛ تم استعمال تقنية رائدة ابتكرها الصينيون حينها وهي ما نسميها اليوم الورق.
ما يذكر لبغداد هو أنها وخلال فترة قصيرة من بدء العلماء في التوافد إليها؛ أصبح كل سكانها كبيرهم وصغيرهم يعرفون الكتابة ويجيدون القراءة.
توحد المغول:.
في مكان بعيد عن بغداد وبالتحديد في مكان يقع أقصى شرقها؛ تمكن شاب مغولي يسمى “تيموجان” أو كما عرفه العالم فيما بعد بـ “جنكيز خان” من توحيد قبائل المغول وتقوية أوصار التعاون فيما بينها، إلى أن قام حفيده هولاكو بتحقيق طموح توسيع رقعة سيطرة المغول.
مجسم لجنكيز خان
ومع امساكه بقبضة من حديد على كل قبائل المغول في بلاد فارس؛ قام هولاكو كخطوة أولى في تحقيق حلمه بالقضاء على الحشاشين وتدمير معقل سيطرتهم، وعندما انتهى منهم استدار جنوباً وشرقاً لينهي حقبة العباسيين.
كان يصل للمستعصم -وهو الخليفة العباسي الذي عاصر هولاكو- العديد من الأخبار المتناقلة عن تقدم المغول وتنامي بطشهم وقوتهم، ولكن غرور المستعصم واعتقاده بأن العالم الإسلامي كله سيهب لنجدته إن تجرأ المغول على الهجوم على بلاده قد حال دون الاستعداد للمواجهة.
في الواقع كانت حقبة حكم المستعصم تضج بضعف قيادته وباضطهاده لشريحة واسعة من مواطني دولته.
هجوم المغول على بغداد:
في أواخر عام 1258 م؛ بادر زعيم المغول هولاكو بإرسال رسالة إلى الخليفة العباسي المستعصم يطالبه فيها بفتح أبواب بغداد امام جحافل الجيش التتري وحلفائه من مسيحيي جورجيا، وكان رد المستعصم له، “عد من حيث أتيت”، وهنا قام القائد المغولي بحشد جيشه الجرار، ليحاصر العاصمة بغداد أولاً ، ومن ثم يبادر في ذبح فرقة الجيش الذي تجمَّع على بوابة المدينة دفاعاً عنها.
كانت بغداد قد أوصدت أبوابها وصمدت أمام حصار جيش المغول لمدة 12 يوماً، إلى أن سقطت أسوار المدينة، لتؤذن ببدء هجوم المغول على بغداد، وحينها أخذ الجيش القادم من الشرق في سرقة ونهب كنوز البغداديين من ذهب وفضة، مع إسرافها في قتل الصغير قبل الكبير من أبناء المدينة.
لم يكتف المغول وحلفاءهم بسرقة بغداد وذبح أهلها، بل قاموا بالانتقام من المكتبات ودور العلم وخاصة مكتبة الحكمة، حيث ألقوا كل مجلداتها ومخازن كنوزها العلمية في نهر دجلة.
بعد ذلك توجه الجيش المغولي إلى قصر الخليفة وقاموا بإعدامه، في الحقيقة لم يذبحوه أو يقتلوه بالطرق التقليدية، حيث كان المغول يؤمنون بأن القيام بذبح أصحاب الدم الملكي وسفك دمهم ينذر بالخراب، لذلك قاموا بقتله بطريقة أخرى، إذ لفوه ببساط، ثم تم رميه على الأرض ليموت تحت حوافر الخيل التي داست عليه ذهاباً وعودة.
كانت هذه اللحظة التي سقطت فيها بغداد بمثابة آخر فصول الخلافة العباسية والصفحة الأهم في مسيرة إمبراطورية المغول التي توسعت في الشرق الأوسط لتصل إلى الحدود المصرية، قبل أن تنهزم سنة 1280 م أمام المماليك بقيادة سيف الدين قطز في معركة عين جالوت، لتكتفي الإمبراطورية المغولية بما وقع تحت سيطرتها ، قبل أن تدخل في طور الانحسار التدريجي.