الأختام الاسطوانية في بلاد الشام و بلاد الرافدين
مقدمة
يقتصر موضوع حلقة البحث هذه على زمرة معينة من الآثار الشرقية القديمة و هي الأختام الأسطوانية بشكل عام و بشكل خاص البابلية و لهذا لا بد لنا من التعرف بماهية الأختام الأسطوانية بوجه عام و تسليط الأضواء على الإنجاز الحضاري لدول الشام القديمة و بالتالي إبراز النواحي التي تميزت بها في فن النقش على الأختام و في ضوء النتائج الحالية فإن إبراز الخصائص الفنية في الأختام من المهام الشاقة للغاية و كما لا بد لنا من موجز عن أهمية الختم الأسطواني و استعماله و تاريخه و تطوره فضلا عن خريطتين جغرافيتين لتسهيل التعرف على المواقع الجغرافية و لوحة خاصة بتسلسل الحقبات التاريخية و يضاف إلى ذلك تقديم تحليلا فنيا و تاريخيا للأسلوب البابلي القديم و الحديث حسب تسلسلها التاريخي و الزمني . هذا و تتضح أهمية الأختام الأسطوانية في كونها مظهرا من مظاهر تطور الفن القديم في بلاد الرافدين و سوريا و من كونها تسجيلا مشخصا لأحداث تاريخية أو لأساطير قديمة تساعدنا على تفهم مستوى التفكير و صورة الحدث و رموز الآلهة و الملوك و الأشخاص . و هذه الطريقة من التسجيل الفنية تعتبر من أقدم طرق النشر الثقافي و ذلك أن الخاتم الموضوع بشكل أسطواني من حجر الهيماتيت أو ستيتاتيت أو الصدف يمكن طبعه عشرات بل مئات الطبقات على الطين و بذلك نضع بسهولة ألواحا من الطين يمكن نقلها إلى كل مكان حاملة معها أفكار أو أخبارا لا تبقى مائلة بوضوح إلى عهد طويل . تعريف الختم الأسطواني : الختم عبارة عن قطعة أسطوانية يخترقها ثقب اختراقا طولا نيا في الغالب و يتراوح متوسط طول الختم عادة بين خمس وست سنتيمترات لكن قطرها لا يتناسب مع الطول بشكل ثابت لكن يبلغ حوالي نصف الطول يجري عادة نقش أشكال معكوسة و غائرة في المسطح الخارجي للأسطوانة و تظهر هذه الأشكال ناتئة فيها لو سحبنا الأسطوانة فوق مادة طرية و كان القدماء يستخدمون الطين كمادة طرية لسحب الأختام عليها و يتيح الثقب المجال لوضع الختم في مغزل معدني أو تثبيته في إبرة بواسطة سلسلة معدنية أو خيط كذلك يمكن تكوين جسم حيواني أو قولبة معدنية في إحدى نهايتي الختم الأسطواني مع إحداث ثقب يخترقها أو تثبيت عقدة خيط في الداخل و ذلك لإفساح المجال بطريقة أخرى لتعليق الختم ، خلاصة القول الختم الأسطواني هو أسطوانة صغيرة مثقوبة حفر على أسطحها نقوش بحيث إذا درجت على الطين أعطت شريطا من الأشكال تعتبر بمثابة التوقيع في يومنا هذا و تعبر عن الملكية الخاصة . 2- ابتكار و نشوء الختم الاسطواني : ظهر الختم الاسطواني في جنوبي الرافدين و في بلاد عيلام حوالي (3200) ق.م حيث تزامن انتشار الختم الاسطواني مع أقدم الوثائق الكتابية في بلاد الرافدين و هذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة لتاريخ و حضارة المشرق الأدنى القديم و غالبا ما كان يفترض و جود علاقة بين الحدثين دون الوصول إلى نتيجة مؤكدة بالنظر إلى التطور اللاحق لحضارة الشرق الأدنى القديم و لاشك أن الباحثين تكهنوا مرارا بوجود صلة بين نشوء الكتابة و بين ابتكار الختم الاسطواني غير أنهم لم يصلوا إلى حد اليقين للآن . و كما أن ابتكار الختم الاسطواني لا ينسب إلى شعب معين و بالتالي لا طائلة من النزاع القائم حول من ابتكر الختم الاسطواني هل السوماريين أم العيلاميين بل كان الابتكار نتيجة ضرورية لتطور حضاري و حصيلة لشروط اجتماعية اقتصادية و بيئية كانت قائمة في سومر و عيلام و لم يكن هناك ما يماثلها في مصر و بلاد الهندوس و بما أن اقتصاد الرافدين كان معولا على الطين كمادة للكتابة و لصنع سدادات الجرار و فقدان غيرها من المواد مثل البردى فقد أصبح الختم الاسطواني الوسيلة المثلى للتعبير عن أقدم المعاملات الاقتصادية و البيروقراطية و ذلك لسهولة سحبه على الطين و سرعة جفاف أثره على تلك المادة الطرية و كان آخر استخدام للأختام الاسطوانية في الفترة الاخمينية التي تمثل نهاية استخدام الختم الاسطواني و عودة الختم المسطح الذي لا زال مستخدما إلى يومنا هذا . المواد التي كانت تصنع منها الأختام : استخدم نقاشوا الأختام في بداية أمرهم حجارة طرية تتناسب مع أدواتهم البسيطة المستخدمة في النقش مثل الحصى و لب القواقع – الستاتيت – الكوارتز و مع تطور أدوات النقش بدأ النقاش يفضل الحجارة القاسية مثل الهيماتيت و التيوريت و العقيق و المرمر غير أن هذه القاعدة غير مضطردة إذ نجد ميلا في منتصف الألف الثاني ق.م إلى استخدام مواد طرية مثل الفريت و أما عدة الصنع من المثقب و المثقب المدبب – المعذرف – الجلخ و دولاب السن كما أن طريقة استخدام هذه الأدوات أظهرت عددا من الأساليب المعروفة و المميزة مثل أسلوب المجسم و أسلوب الحفر المائل و كانت الأشكال المنقوشة تتنازع بين الأشكال الطبيعية فترة و الأشكال المجردة فترة أخرى أي أننا نجد في مجال الأختام تنازع بين المذهب الواقعي و المذهب التجريدي في الفن و هذا التنازع لا يزال قائما إلى الآن في مضمار الفنون . مشهد يمثل صانع الأختام أثناء العمل و هذا المشهد منفذ في قبر تحي في سقارة و يعود إلى السلالة المصرية السادسة (2290-2135) ق.م تتألف الكتابة الهيروغليفية من الكلمات التالية : صانع الأختام يثقب الختم و من المحتمل أن تضيف الكتابة اسم الشخص الذي يقف أمام الصانع ممسكا بالخيط اللازم لتعليق الختم و لعله صاحب الختم المراد صنعه . 4- انتشار الختم الاسطواني : بعد انتشار الختم الاسطواني في كل من سومر و عيلام في وقت واحد تقريبا تطور الختم من حجمه الكبير الاسطواني إلى حجمه الاعتيادي و لم يعد أمام النقاش أي عائق يحول دون نقش المواضيع و المشاهد المعقدة . كان الختم الاسطواني في الألف الثالث ق.م يستخدم في البداية للأغراض الرسمية و بالتالي كان انتشاره محدودا لكن سرعان ما عم انتشاره بين الناس في مطلع الألف الثاني ق.م و يعود سبب هذا الانتشار إلى التحولات التي طرأت على النظم الاقتصادية فبعد أن كان الاقتصاد بين الدولة أصبح القطاع الخاص شريكا بحيث أصبح كل تاجر بحاجة إلى ختم اسطواني خاص به شأنه في ذلك شأن كبار موظفي الدولة و كهنة المعبد . انتشر استعمال الختم الاسطواني في أرجاء واسعة من بلدان الشرق الأدنى القديم و كان شائعا منذ البداية في جنوبي الرافدين (سومر) و في جنوبي و جنوبي شرقي إيران (عيلام) لكن سرعان ما انتشر في سوريا أيضا و هذا ما يتميز في تنقيبات تل حبوبة على الفرات الأعلى و فيما بعد انتقل الختم الاسطواني إلى مصر حيث كان واسع الانتشار منذ فجر التاريخ حتى السلالات القديمة و بقي الأمر على هذا الحال حتى السلالات الوسطى حيث نافس الختم المسطح الجعلان لكن الختم الاسطواني حافظ رغم ذلك على أهميته .مقابل ذلك نجد أن الختم الاسطواني لم ينتشر تماما في الحضارات التي ازدهرت في منطقة تركيا الحالية فمعظم الأختام المكتشفة في تلك المواقع مستوردة من الخارج و كما هو الحال في تركيا لم ينتشر الختم الاسطواني في شمالي إيران و أفغانستان و باكستان ، أما في حضارة وادي الهندوس في باكستان فقد انتشر استعمال الختم المسطح ذي الشكل المربع غير أنه تم العثور على أختام اسطوانية مستوردة من بلاد الرافدين في الهند و في لوتاك و في خليج البنجال و هي دليل على مدى انتشار العلاقات التجارية في ذلك الزمان و لم يكن الختم الاسطواني شائعا في بلدان الخليج العربي حيث تتطور في هذه المنطقة نوع مستدير من الأختام المسطحة في الألف الثالث ق.م . 5-مواضع وأساليب و محتويات الأختام الأسطوانية : خلافا لما هو في الفن المصري لا توجد وحدة بين الكتابة و الصورة في فنون الشرق القديم الأدنى أي أن الكتابة لا تشرح معاني الصور إلا في حالات نادرة كذلك لا تشرح الصورة معنى الكتابة المرافقة لها لكن حتى الأعمال الفنية الكبيرة في الحجم لم تسد تلك الثغرة و في غالب لأحيان يضطر المتفرج على الأختام أن يعتمد على سلسلة من المقارنات للوصول إلى تفسير ما للصور الممثلة على الختم ورغم ذلك فإن هذه الركيزة غير ثابتة لأن فقدان حلقة واحدة من حلقات تلك السلسلة من شأنه أن يحطم مجمل الأفكار التي نسجت حول الصورة . تعتبر المواضيع التصويرية في الأختام الأسطوانية بوجه عام ذات طبيعة دينية لكن الطابع الديني يشمل حتى المواضيع التي تبدو دنيوية مثل مشاهد الصيد و القتال و استعراض الأسرى و تهجير الناس و ممارسة الصيد و الحرب كانت تجري على شرف الآلة الشخصي أو المجلب لصاحب الختم أو نيابة عن ذلك الإله بيد أن طغيان الطابع الدنيوي على المشاهد التصويرية في الأختام لم يتم دفعة واحدة بل بصورة تدريجية و مع هذا يبقى الاستلهام الديني هو نفسه . كما يعكس أسلوب النقوش التصويرية للختم روح العصر السائد آنذاك من جهة لكن الأسلوب يتعلق على نوع المادة المصنوع منها الختم من جهة أخرى فتقنية النقش على مادة صلبة تختلف عن تقنية النقش على مادة هشة أو على مادة مركبة من الخزف و المعجونة الزجاجية . أنواع الأختام الأسطوانية : 1- أختام صادرة عن المعابد و القصور تخص الكهان و الأمراء و الكتاب . 2- أختام مدنية تجارية تخص علاقات الناس مع بعضهم البعض سواء فيما يتعلق بعملياته أو الشراء أو عقود الزواج و ألصقوك . 3- أختام تجارية صنفا معينا من البضائع أو تشير إلى ورشة مميزة أنتجت هذا النوع و هي بمثابة الماركة التجارية في يومنا هذا . 7- في ماذا كان يستخدم الختم و لماذا : الختم في بلاد الشرق الأدنى القديم عميق الجذور قبل ابتكار الختم الأسطواني كان الناس يستخدمون الختم المسطح و كان الختم من منذ ظهوره يؤدي الغاية التي صنع من أجلها و هي تمييز الملكية الشخصية أو التعريف بالفرد أو المؤسسة و في مجال استخدام كهوية شخصية ظل الختم يحتفظ عبر كل العصور بشكل التعويذة و بما تتضمنه من معان سحرية و حتى في يومنا هذا نجد أن الفلاح إذا عثر في حقله على خاتم أسطواني قديم سرعان ما يعلقه في عنقه معتبرا إياه تعويذة تحمل مختلف أنواع القوى الخفية كما لا تتوفر أدلة ساطعة على وجود قوانين ثابتة لضبط مجالات استخدام الختم الأسطواني لكن من الواضح و جود ماحيتين أخريين يمكن إضافتهما إلى مجالي التعرف بالشخصية أو الملكية و هي ختم الوثائق أو البضائع لضمان عدم المساس بها و ختم المعاهدات أو الاتفاقيات بين الأفراد أو بين الدول للتأكد على شرعيتها و الختم هنا بمثابة التوقيع في يومنا هذا . و كان الختم يتم على الطين فقط و ذلك لأن المواد المصنوعة من الطين أو على الغلاف الطيني الذي يلتصق بالمادة غير الطينية مثل الأواني الموضوعة من القش أو الجلد غير أنه تتوفر أمثلة على ختم الأبواب الخشبية بهذه الطريقة أبضا . في حوزة من كان الختم : يذكر هيردوت أن الختم كان في حوزة كل مرئ في بابل لكن هذا القول لا يمكن تعميمه على الألف الأول ق . م كما لا يساعدنا على الاستنتاج بأن تلك العادة كانت سارية في كل العصور و في بادئ الأمر أي خلال الألف الثالثة ق . م كان الختم يقتصر على المؤسسات الرسمية و ذلك لأن الاقتصاد عهدئذ كان بيد الدول و المعبد و مع فصل الدين عن الدولة و شيوع الملكية الفردية في الاقتصاد و أصبح الختم في أيدي الملوك و كبار الموظفين و الكتبة و التجار . بدأ هذا التطور في منتصف الألف الثالث ق . م ثم تعاظم في سياق الألف الثاني و الألف الأول ق . م مما دعا هيردون إلى القول أن كل شخص في بابل كان يحمل ختما . و بالطبع كان هناك أناس لا يحق لهم حمل الختم مثل النسوة أو الرجال الذين هم على درجة مختلفة من درجات التبعية و العبودية و في حالات نادرة كان الكهنة من النساء طرفا في عقد أو صك و لعل سبب هذا التحول يمكن في التحول الذي طرأ على النظام الاقتصادي الذي لم يترك للمرأة في مطلع الألف الثاني ق . م إلا مجالات ضيقة في الحياتين الاقتصادية و العامة . 9- بابل عاصمة الإمبراطورية البابلية : و تقوم هذه العاصمة التاريخية على بعد 90 كم جنوب بغداد قرب بلدة الحلة و قد أعيد بناؤها من قبل نابو بلاصر و نبوخذ نصر و شيدت في هذا العصر و لأول مرة في تاريخ المشرق مدينة بهذه الضخامة و النظام تتسع لعشرات الألوف من الناس و قدر البعض سكانها 200000 إنسان يمر عبر هذه المدينة نهر الفرات و يقسمها إلى قسمين شرقي و غربي يربط بينها جسر و لقد تركزت التنقيبات في القسم الشرقي منها حيث ثقب فيها ثقب أثرية ألمانية بين م (1899- 1917) و كشفت عن آثار الفترة البابلية المتأخرة في عهد الملك نبوخذ نصر الثاني مثل بوابة عشتار و شارع المراسم بينما اقتصرت الأعمال في القسم الغربي على أسبار هدفت إلى تقصي إمداد سور المدينة و شوارعها الرئيسية . خاتمة : و أخيرا يتضح من خط السير الطويل الذي علق كل باحث و منقب أثري أن () الحقيقة أنه طريق علمي و شائك و من ثم كان من اللازم أن يتصف الباحث الأثري بصفات تؤهله لهذه المهمة الصعبة فبالإضافة إلى الثقافة المتنوعة و الشاملة و العميقة و بالإضافة إلى المعارف التقنية الضرورية لبحث هذا القطاع أو () من الماضي هناك الذكاء و الفطنة و نفاذ البصيرة و الحس المرهف و القدرة على التخيل المبدع و حماسة لحب الحقيقة لا تنطفئ جذوتها و دأب متواصل و صبر و جلد على العمل () بحيث لا تثنيه الصعاب و وعورة الطريق عن مواصلة السير إليها () كل هذا () في القول و العمل و أيضا الأمانة و الصدق بحيث لا () مهما كانت بل عليه دائما و أبدا أن يكون إلى جانب الحقيقة حتى و لو كان هذا مؤذيا لذاته و ختاما نرى من خلال حلقة البحث هذه الأختام الأسطوانية في العصر البابلي و محتوياتها التي تظهر تيارات الحياة المختلفة و خاصة الدينية و السياسية منها و فن النقش على هذه الأختام التي كان معظمها مصنوعا من مادة الهيماتيت في العصر البابلي . المراجع : 1) مجلة الحوليات الأثرية السورية المديرية العام للآثار و المتاحف . 2) آثار الوطن العربي القديم ( الآثار الشرقية ) تأليف د : محسن سلطان. 3) الأختام الأسطوانية في سورية بين ( 3300 – 330 ) ق . م . 4) الأختام الأسطوانية فنون الشرق القديم و تاريخها الباحثة إيسيدا . 5) الفن في العراق القديم تأليف انطوان مورتفات ترجمة د : عيسى سليمان و سليم طه التكريتي . -المصادر : مجلة الحوليات الأثرية المجلد 33 السنة 1983.
١٤١٤
٤ تعليقات
رد مع اقتباس