الطب السومري
تظهر إنجازات الحضارة السومرية جلية وواضحة في العديد من مناحي علوم الحياة مثل الأدب، والعلوم، والأنظمة الحكومية والأرشيفية، ويعد الطب بفروعه من أبرز تلك العلوم التي ازدهرت بالحضارة السومارية، مما يجعلها مثار للإعجاب والمقارنة بينها وبين غيرها من الحضارات المزامنة لها.
العلاقة بين السومارية وما زامنها من حضارات
نجد أن المتتبع لتاريخ ما بين النهرين يلاحظ التداخل الحاصل بين المدن القديمة السومرية والأكدية على وجه الخصوص وتقارب تاريخ ظهورها، مما يؤدي إلى تداخل حضاري واضح، وأن وجود كلمات سامية كثيرة في الطب السومري دليل على هذا التداخل للحضارتين، بالإضافة إلى أن استمرار الكتابة واللغة السومرية لمدة طويلة عند الأكديين والبابليين يؤكد أنه لم يوجد أية نظرة عدائية أو غيرية للثقافة السومرية، خاصة مع تداخل الآلهة والأساطير اللاهوتية لدى هذه الشعوب.
بل إن ول ديورانت يقول في كتابه قصة الحضارة "إن العلاقة التي بين اللغتين البابلية والأشورية وبين اللغة السومرية لتشبه العلاقة بين اللغتين الفرنسية والإيطالية من جهة وبين اللغة اللاتينية من جهة أخرى".
لقد تطور الطب في بلاد سومر والرافدين طيلة العصور السابقة للسومريين حتى وصل إليهم، وقد استفاد السومريون من تراكم الخبرات كما استفادوا من تجارب الشعوب المجاورة التي تحتك بالسومريين والرافدين. ولا شك أن هذا حصل في العصور الحجرية القديمة والحديثة، ولكن ميزة العصر السومري، أنه جاء في بداية اختراع الكتابة السومرية، والتي تشكل أيضاً استمراراً لبدايات أكثر بدائية من الكتابة التي وصلتنا. وقد سجلت الكتابة ما هو موجود ومتوارث، كما سجلت ما أضيف في عصرهم. وسجلت الكتابة أيضاً ظهور الآلهة في وادي الرافدين والتي كانت موجودة منذ عصور سحيقة قبل الكتابة.
الطب عند السوماريين وعلاقته بالآلهة
والطب السومري كان موجوداً وكذلك الآلهة المسئولة عن المرض، والشفاء أيضاً كان موجوداً سواء بالأعشاب أو بالتعاويذ، أو بالجراحة البدائية والتجبير، فنجد أن الطب السومري يعتمد على نظرية أن الأمراض سببها وعلاجها إلهي، أي أن سبب الأمراض هو غضب إلهي بسبب خطأ، أو عتاب إلهي مباشر بسبب عدم تنفيذ التعاليم الأخلاقية الإلهية، وبذلك يعتمد الشفاء على استرضاء هذه الآلهة. وتعود النظرية في جذورها إلى نظرية الكون والخليقة وعناصرها، المتمثلة بالفناء والخلود والولادة والموت.
اعتقد السومريون أن المرض من أنواع الموت، لأنه يخرج من العالم الأسفل (عالم الموت)، ولا يكون أمام الإنسان إلا طريق من إثنين: إما أن يشفى فيعود إلى الحياة الطبيعية، وإما أن يذهب إلى عالم الموت نهائياً (عالم الآلهة)، وهذا أمر تقرره الآلهة وتنفذه الآلهة. وتظهر لنا الأدوية والأعشاب مثل إكسير الخلود، أو عشبته، فهي قادمة من عالم خالد. إنها قادمة من جسد الآلهة الأم فاتحة الخلود والتكاثر والصحة، ولذلك نرى أن الأعشاب لها حظ أوفر من غيرها لأنها تنبت من الأرض التي هي الأم الأولى. وما رمز الأفعى إلا شكل من أشكال الآلهة الأم التي يكمن في جسدها الشفاء أو الترياق، والسم هو مركب دوائي وجلد الأفعى الذي تنزعه كل سنة يدل على التجدد والشباب والصحة، كما اعتقد سكان بين النهرين أن الأنهار لها المقدرة على جرف المواد والقوى الشريرة التي تسبب الأمراض ولهذا وضع أحياناً كوخ صغير إلى جانب النهر به الشخص المريض.
دلائل حضارية عند السومريين
ولكن التجارب الحياتية بدأت تفرض نفسها كالنظافة العامة والإجراآت الوقائية من الأمراض، حيث أن أقدم مظهر للعناية بالصحة العامة هو وجود مجاري للمياه القذرة في كيش يرجع تاريخها إلى 3000 ق.م. وكذلك وجود حمامات ذات أرضية لا ينفذ منها الماء، ومجاري منها إلى مستودع خارج البيت الذي ينظف في فترات من قبل عمال محترفين، وقد وجدت مراحيض أيضاً في أور في فترة 2000 ق.م. وفي أحد هذه الدور يعود تاريخ المراحيض إلى حوالي 3500 ق.م.
الآلهة
وقصة نشأة الطب عند السومريين يخبرنا بها بيروسوس من القرن الثالث قبل الميلاد وقد ألف كتاباً لإسكندر المقدوني عن العلوم البابلية، أنه خلال حكم الملك ألوروس الذي حكم قبل الطوفان خرج الوحش أوئنس من البحر وكان على شكل إنسان في لباس سمكة وعلم شعبه مختلف أنواع الحرف والقوانين والعلوم ومنها الطب. والوحش أوئنس يشبه في صورته شكل الإله أيا الذي كانوا يمثلونه على شكل إنسان في لباس سمكة، هذا يعني أنه عندما حكم الملك ألولم (ألوروس) في أريدو ظهر الإله أيا من البحر وأعطى العلوم ومنها الطب إلى الملك، وبذلك يكون الملك أول طبيب في التاريخ.
وهناك عائلة من الآلهة المسؤولة عن الطب والشفاء، تبدأ بإلهة الماء الأولى التي تسيطر على المرض والدواء في وقت واحد ثم يتجسد في الإله "أنو" الذي يطرحهما منفصلتين في الإله "أيا" الشافي (إله الماء) والإله" إنليل" الداء (إله الهواء)، وينجب أيا؛ "نركال" و"مردوخ" المعبرين عن المرض والشفاء. ويظهر في الجيل الخامس "ننآزو" وزوجته كولا، وقد سمى جاكوبسون "ننآزو" ونسله آلهة البساتين وهم جميعاً من آلهة العالم السفلي، ومعنى اسم ننآزو العارف بالماء (وكان الطبيب يوصف بهذا الإسم) وكانت الشجرة أحد رموزه، وله إبن سينجبه في العالم السفلي هو"ننكيشيدا".
ويظهر في الجيل السابع "ننكيشيدا" إله الطب وزوجته" باو" إلهة ذوي الرؤوس السوداء (السومريون). ومعنى ننكيشيدا الحرفي هو(سيد شجرة الحياة) ويلقب في المدائح الإلهية بخادم الأرض الواسعة -حرفياً- محرك كرسي الأرض الواسعة، أي العالم الأسفل ومع كل هذه الصفات الطيبة فقد تغلبت عليه الصفات السيئة المرعبة مثل؛ إله الموت والأوبئة وأشعة الشمس الحارقة، وكان يأخذ دور الإغتسال في العالم الأسفل، وكانت عبادته منتشرة في منطقة ديالى (مملكة اشنونا) حتى عصر أور الثالث، وحل محله الإله تشايك فيما بعد.
وتختلف شجرة الحياة عند البابليين والأكديين ولكن جوهرها يبقى واحداً:
- النشأة الإلهية للطب منذ الإله أيا.
- العلاقة الجدلية بين المرض والشفاء.
- آلهة المرض وآلهة الشفاء هم أبناء الآلهة.
ويظهر شعار الطب عند السومريين كرمز للإله "ننكيشيدا" وهو يمثل أفعوانين حول عصا، ويستمر هذا الشعار في التاريخ حتى أيامنا هذه.
الأطباء
عثر في لجش على خاتم طبيب يرجع إلى 3000 سنة ق.م. وعلى هذا الخاتم وجد مرسوماَ المعبود أيرو وهو إله الوباء والمرض، كما ورد ذكر طبيب في في لوح طيني اسمه "لولو"، عثر عليه في مدينة "أور" يعود تاريخه إلى 2700 ق.م. أما "أور لوجال ايدينا" فقد وصل خاتمه الإسطواني والكتابة المدونة على حجر نذري وكان يحتل وظيفة مهمة تحت حكم "أور نينجرسو بن جوديا"، ويظهر على خاتمه بعض الآلات الطبية التي تشبه الدورق، والإبر، والمباضع، وأحقاب الزيت، والأعشاب الطبية.
ويسمى الطبيب " أزو" (ربما هي اصل كلمة آسي العربية التي كانت تطلق على الطبيب في بداية عصر الإسلام) ومعناه العارف بالماء، أو "يازو" أي العارف بالزيت، وتأتي الصلة بين الطب والماء، أن الماء أساس الحياة، وأن الإله "أيا" رئيس الآلهة هو رب الماء الذي هو مصدر الحياة.
النوع الثاني من العاملين بالطب هو المعزم، أو "الأشيبو" وهو من الكهنة، ويقوم بطرد الأرواح الشريرة من أجسام المرضى وهو الطبيب الروحي بالإضافة إلى وظائفه الدينية الأخرى، والنوع الثالث من العاملين في الطب هو أيضاً من الكهنة ويسمى "باروم" أي العراف، وهو يكشف الطالع ويفسر الأحلام، النوع الرابع هو الكاشف أو "كاشفو" ويستخدم السحر وهو امتداد للشامان القديم في العصور الحجرية، وقد بقي تأثير هذه الأنواع من الممارسة الطبية حتى أيامنا هذه في معظم أنحاء العالم.
وقد وصل أقدم لوحين طبيين من السومريين، يؤكدان على أهمية الطب السريري الخالي من الجوانب السحرية والأسطورية والدينية، حيث كان الطبيب السومري يلجأ إلى المصادر النباتية، والحيوانية، والمعدنية لعمل وصفات طبية. وكانت مواده المفضلة كلوريد الصوديوم (ملح الطعام)، وقار النهر، والزيت الخام. وكان يستخدم من المملكة الحيوانية الصوف، والحليب، وترس السلحفاة، وحية النهر. ولكن أغلب أدويته كانت تستحضر من عالم النبات؛ كالزعتر، والخردل، وشجرة البرقوق، والكمثرى، والتين، والصفصاف، والتنوب، والصنوبر، ومن منتجات مصنوعة كالجعة، والنبيذ، والزيت النباتي.
وكانت المعابد في وادي الرافدين، هي المراكز الأولى للتي نشأت فيها العلوم والمعارف الدينية والدنيوية، وكان الكهنة يمتلكون المعلومات الطبية وبالتالي يمارسون الطب، وكانت بعض المعابد تحتوي على مدارس طبية معروفة، فقد ذكرت مدرسة "نفر" التي كانت تدرس العلوم الطبية الخالصة التي يمارسها الآسو، كما ذكرت بورسيا والوركاء، كما أن هناك لوحة طبية وجدت في (نيبو) يرجع تاريخها إلى نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد، ولعل أهم ما في هذه اللوحة هو أن ما فيها من وصفات ومعالجات خال من ذكر الأرواح والسحر والتعاويذ، وهي تعتمد كلياً على المادة في التطبيب وفي ذلك دفع لما ألصق بالطب القديم في وادي الرافدين بكونه مبنياً على السحروالدجل. ووجدت لوحة في "لكيش" ذات تاريخ مماثل فيها ذكر لآلة جراحية، وطريقة استحضار بعض الأدوية، موقعة من طبيب اسمه (أوردكاليدينا)، وقد يكون هذاأول طبيب مسجل.
موروث الطب السومري
لقد ورث الطب السومري جميع الخبرات الإنسانية السابقة واستطاع تدوينها، وقد أضاف بلا شك، ولكننا لا نستطيع تمييز ما هو قديم وما مستحدث، وإن كنا نستطيع أن نجزم أن التصنيف والترتيب يدل على مستوى أرقى من التحضر الإنساني، رغم احتفاظه بالسحر وتأثيره، كذلك الأصل الغيبي للأمراض والعلاج.
لقد تميز الطب السومري بأنه ترك لنا إرثاً كبيراً من المعلومات والطرق العلاجية، وترك لنا شعار الطب الذي ما زال يستعمل في كل أنحاء العالم. كما ترك لنا أوائل الأشياء؛ أول طبيب، وأول أقرباذين، وأول كتب طبية.