قوانين بلاد ما بين النهرين و ثقافة اللاعنف
إن الشرعية الدولية موضوع فلسفي يقصد به توافق اغلبية الدول دائمة العضوية والمهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية، لإصدار مَجموعة مِن القرارات والتَوصيات تُلزِم بِها دول أخرى، وهناك فرق بين الشَرعية والمَشروعية، فالمشروعية هي مُطابقة الفِعل للنص القانوني، لذا نَستطيع اعتِبار الشَرعية الدولية هي مُجمل البنية التشريعية والقانونية التي تَقوم عليها الامم المتحدة والتي تَحكُم وتُوَجه العِلاقات الدولية، تعتبر قواعد القانون الدولي العام المَصدر الاساسي التي تَعتمد عَليه الشَرعية الدولية ويطبق على سائر الدول التي تنطوي تحت خيمتها، ولكنه لَيسَ المَصدَر الوَحيد، حيث اجتَمَعَ فُقهاء القانون على أن ميثاق الامم المتحدة يَتَمتع بِطبيعة دَستورية تَجعَلَهُ أساس تَرتَكز عَليه جَميع الاعمال القانونية الصادرة من أجهزة هيئة الامم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها، من أجل تَحقيق مَبادئ العدالة وقواعد القانون الدولي، لا سيما حِماية مَبدأ السِلم والأمن الدوليين، التي هي هَدَفُ سامِ للمنتظم الدولي، عَبرَ الاتفاقيات والعُرف ومَبادئ القانون والفِقه والقضاء الدولي لِتُكّون مُجتمعة اساس الشَرعة الدولية. ويمكننا إجمالها بثلاثة اتجاهات تعريفية:
1. اتجاهقانوني:يُعرّف الشَرعية على إنه “سيادة القانون”، أي خضوع السلطات العامة للقانون والالتِزام بِحدودِه، ويمتَد القانون ليَشمل القواعد القانونية المدونة في الدستور وغير مدونة التي تُمثل التقاليد والأعراف لِتَشمل مَجموعة القَواعد التي دَرَج عليه المُجتَمع لفترة طَويلة بَلَغَت حَد التَواتر مَع شعورِهم بإلزام هذهِ القَواعد.
2. اتجاهديني:هنا يُمكِننا تَعريف الشرعية على إنها ” تَنفيذ قانون أحكام الدين”، لِيَكون جَوهَرَهُ النِظامُ الشَرعي الذي يَعمل على تَطبيق ويُلتزِم بقَواعدِ الدينية (القوانين الإلهي)، واعتبار المفاهيم الدينية حقيقة مُنَزَلة، وهذا ما نَجِدَه في أغلب عُلماء الدين في العُصور القديمة والحديثة.
3. اتجاهاجتماعي/سياسي:هنا تُعَّرف الشرعية على أنها “تَقَبُّل أغلب أفراد المُجتَمع للنِظام السياسي وخُضوعِهم له طوعاً، لاعتِقادِهم بأنه يسعى لتَحقيقِ أهدافهم، ويعبر عن قِيَمِهم وأفكارِهم، المبنية على تَصَورِهم للسُلطة ومُمارساتها”.
ويلزم على من يمثل الشرعية الدولية أن يعتمد للقوانين الدولية التي شرعت من أجل المحافظة على موازين القوى بين الناس، المجموعات والدول عبر الحفاظ على ضمير الإنسانية كغاية في العيش المشترك على هذه الارض، وهي اقرب إلى قانون اللاعنف وجوهرها ثابت وهو الحق في الحياة؛ إذا تلاقت الغاية والوسيلة في لغة التواصل للحصول على الحلول التعاونية المشتركة، لكن اذا كان الإنسان يستخدم لغة التنافس في سبيل الحصول على ما يريد محاولاً الغاء وجود الآخر، الأمر الذي يجعله هو الآخر يتحول إلى متمرد يبحث على كل الوسائل المتاحة حتى العنيفة مِنها، ليثبت وجوده في الحياة.
حقوق الانسان لا يمكن الحصول عليها بالعنف وإنما يمكن الحصول عليها بالسلم واقناع الخصم ومواجهته بالكفاح السلمي، وإن كان الكثيرين يربطون الخيار اللاعنفي بالجبن والخضوع، لكنه بالحقيقة يحتاج إلى قوة تحمل أكبر، لما يَتَعَرضَه الفرد من ضغط نفسي أو جسدي للوصول إلى ضمير الخصم. لأننا لا نستطيع الافتراض عند اختيارنا للاستراتيجية اللاعنفية أن يكون جميع الناس طيبون بطبيعتهم، ونجزم إن الخصم لن يستخدم معنا العنف أبداً، لكن علينا أن نؤمن بأن لا وجود للعنف في أي شكل من اشكال الحكم الرشيد، أو العدل، أو سيادة القانون أو الأمن إن كانت الغاية احترام حقوق الإنسان، غالباً ما تمتنع الدول الدكتاتورية عن الاهتمام بحقوق الإنسان خصوصاً الحقوق المدنية والسياسية من أجل الحفاظ على أمنها، وقد يكون تحقيق التوازن بين حقوق الإنسان والأمن أمراً صعب المنال؛ لكن جوهر القوانين الدولية لحقوق الإنسان وللأعنف واحد، تلتقيان في الاهداف من أجل الوصول إلى الغايات السامية وهي الحق في الحياة وأساسها الإنسان.
عندما بحثت في قضايا حقوق الانسان وتاريخها انصدمت بحقائق تبرهن لي عكس ما يتداول بين مخيلة الناس وتصوراتهم بأن إمبراطوريات بلاد ما بين النهرين بنيت على سفك الدماء والتعذيب للحفاظ على هيبتها وعظمتها، حيث غَلَبَ على القوانين السومرية ” مبدأ الإصلاح والتعويض” في معاقبة المذنب، بدلاً من “الانتقام والقصاص”، الذي تستند لقاعدة ” العين بالعين والسن بالسن” الذي اتخذته شريعة حمورابي لاحقاً، ثُم تناقل هذا المبدأ للشريعة العبرانية من ثم أخذت به الشريعة الاسلامية.
حيث اعتبر المختصون بتاريخ العراق القديم بأن بلاد الرافدين أول من كتب القوانين في تاريخ الانسانية، من ابرزها هو وجود مجلس الشيوخ، التي تأخذ على عاتقها القيام بتأليف القوانين بناءاً على الموروث العرفي الذي درج عليه الناس في إدارة شؤونهم، ووصفت هذه القوانين بالتطور الذاتي على صعيد حقوق الانسان.
ويذكر إن أقدم وثيقة لحقوق الانسان كانت سومرية، لتؤكد إن القانون العدالة والحرية من أساسيات الفكر العراقي القديم، وإن كلمة حرية (أماركي) قد وردت في النص السومري لأقدم وثيقة عرفها العالم القديم تشير بصريح العبارة إلى أهمية حقوق الانسان و تأكيدها على حريته وبرفضها كل ما يناقض ذلك.
يقول (الدكتور صموئيل كريمر استاذ الآثاريين العراقيين): إن في بلاد سومر كان يقطن شعب يعيش في أرقى الحضارات في العالم، وإن أول سابقة قانونية في مجال حماية حق الانسان في الحياة وضمان المحاكمة العادلة للفرد باحترام حق الدفاع، وتأكيد الحرية في حدود القانون كانت معروفة لدى السومريين (في الالف الثالث ق.م).
فيما يتعلق بالحقوق السياسية فأن الوثائق التاريخية تؤكد عن إن نظام الحكم في العراق القديم لم يكن مطلقاً، إذ كان هنالك (مجالس عامة) تشارك الحكام في ممارسة السلطة، فالبرلمان العراقي القديم كان مكوناً من مجلسين هما مجلس الشيوخ ومجلس المحاربين.
وقد ظهر عمل إصلاحي واربعة قوانين مدونة في الحضارات العراقية القديمة، تتضح فيها بعض ملامح حقوق الانسان، والجدير بالذكر إن هذه القوانين قد سميت بأسماء الملوك الذين وضعوها وهي:
1. قانون أورنمو: يعتبره الباحثون من أقدم النصوص القانونية المكتشفة في فترة (2050 ق. م) من حكم أورنمو في مدينة نفر، حيث عالجت شرعيته المكونة من (31) مادة عدد من حقوق المرأة المتزوجة والمطلقة، ومسألة الاحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث ومعالجات لأحوال العبيد وحالة هروبهم و عتقهم، وإنه وَطّدَ أمر العدالة ورفع الظُلم والبَغضاء.
2. قانون لبت عشتار: سبقت شريعة حمورابي بقرنين من الزمان حيث كانت مدونة بالخط واللغة السومرية، ويُعَدّ هذا القانون ثاني أقدم قانون، والذي وجد منه سبعة قطع، تضمنت المقدمة والخاتمة وسبع وثلاثين مادة، جاء في أحدها عبارة: (عندما عززت رفاهية بلاد سومر واكــد أقمت هذه المسلة). حيث وَطدّ العدالة و نشر القانون المكتوب، ومنع الظُلم، وأنصَفَ الفَقير و أعان الضعيف ونَظَمَ حقوق الناس، وشؤون العَبيد، ونظّم الضرائب وشؤون المرأة الزوجة الحُرّة، وحقوق الزوجة الأم وحقوق الاولاد والإرث، والقضاء على الاوضاع المتردية وسوء الإدارة وفساد الموظفين.
3. قانون مملكة آشنونا: سبق قانون حمورابي بنصف قرن وضعه الملك بلالاما عام 1992 ق.م، وهو من ملوك آشنونا البارزين.
تصل مواد هذا القانون الى 70 مادة قانونية عالجت، قانون الأسرة، وحقوق الزوجة والزوج، وحق الزواج العائد من الحرب باستعادة زوجته وإن كانت قد تزوجت وأنجبت، وحقوق الأسير ومصير أمواله، وتنظيم العقود القانونية والاحوال الشخصية، وأمور العبيد، وفرَّق هذا القانون بين الرقيق الأجنبي والرقيق المحلي، فالأول لا ينتهي إلا بعتق السيد لعبده طوعاً والثاني فإنه مؤقت ينتهي بانتهاء المادة القانونية التي حددها القانون.
4. قانون حمورابي: تعدّ وثيقة قانونية مهمة في حقوق الانسان والحريات الاساسية، لأنها مثلت أول مدونة وضعية للقانون الجنائي، حددت قواعد والاصناف، وتضمنت ما يرفع الحيف والظُلم على الأفراد بشكل عام والمرأة بشكل خاص.
وفي عهد حمورابي تحسن وضع العبيد، فأصبحت لهم ذمة مالية مستقلة عن السيد، ولهم حق التقاضي أمام القضاء كمدعي أو كمدعي عليه.
وقد تم حصر المواد القانونية لشريعة حمورابي بخمسة أبواب رئيسية تحاكي تبويب أحدث القوانين والتشريعات، تتحدث عن جرائم ضد الإدارة القضائية والملكية، وأحكام التجارة، وأحكام الزواج، وأحكام الأراضي والبيوت، وأحكام ذوي المهن، والزراعة والري، وأحكام أجور العمل وبدل الإيجار وأحكام الرقيق.
وقد مثلت هذه القوانين قمة ما وصلت اليه وحدة البلاد السياسية والحضارية، وقد أصدرها في أواخر حكمه وعهده، التي وصفت بانها أفضل ما وصلت إليه القوانين العراقية القديمة من حيث النضج والصياغة القانونية.
وهنالك عمل اصلاحي يكاد يكون قانوناً لولا خلوه من المقدمة والخاتمة، وهو الاصلاحات المنصوبة العاهل السومري (أوركاجينا) (حاكم لكش في القرن 24 ق.م)، والتي تعد أقدم وثيقة تاريخية تشير صراحة الى اهمية حقوق الانسان، والتأكيد على حريته، فقد عثر في مدينة الشطرة جنوب العراق على لوح سومري يضم إصلاحات والتي تعود للقضاء على التمايز الاجتماعي بين الفقراء والاغنياء، وإزالة الظلم والاستغلال الواقع على الفقراء من قِبَل الاغنياء والمُتَنفذين ورجال المعبد حيث ورد نص يقول: (بيت الفقر صار بجوار بيت الغني).
أما الأن رغم التطور التكنلوجي الذي وصل اليه البشر، لكننا لازلنا نجد إن اللغة الشائعة في عالمنا اليوم هي نزاع الحروب ولغة سلاح، تجسس وانتهاك خصوصية الفردية، عبيد حرب باسم مرتزقة أو دروع بشرية، الحكومة تمتلك الحصانة والقوانين الصارمة تطبق على الشعب الاعزل، وتخوينه ومنع حريته في التعبير و استغلال موارد البلد في خدمة السلطة واقتصاده باستثمارات صفقات مشبوهة.
لذا علينا ترسيخ ثقافة اللاعنف، عبر وضع خطط استراتيجية تدعم (حقوق المرأة والطفل) وحث مؤسسات الحكومية والمجتمع المدني بضرورة عقد البرامج التدريبية والتعليمية في حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين “الجندر” ، الاهتمام بنشأة وتربية صحيحة للطفل من أجل خلق جيل مؤمن بقوانين حقوق الإنسان، وضع برامج تدريبية لأعضاء البرلمان وموظفي الحكومة من اجل دمج حماية حقوق الإنسان في كافة السياسات والتشريعات عبر إعداد وصياغة قوانين جديدة أو تعديل القوانين القائمة على التمييز، أشراك المؤسسة العسكرية في ورشات عمل بما في ذلك قوات الأمن، والشرطة، والجهاز القضائي، دعم استقلال القضاء والسلطة القانونية من اجل النظر في انتهاكات حقوق الإنسان ليخلق الثقة بين الفرد والسلطة، تنسيق مؤسسات الدولة مع منظمات المجتمع المدني وقادة المجتمع المحلي والزعماء الدينيين بضرورة ترسيخ مبادئ وتعاليم حقوق الإنسان في المجتمع.