أخلاق الثأر أم عواقب الإذعان.. كيف نظر الفلاسفة للغضب؟
لوحة الغضب ضمن الخطايا السبع المميتة للفنان بيتر بروغل الأكبر من القرن السادس عشر (ويكي كومنز)
هب أن الغضب استولى عليك اليوم لأنني سرقت منك شيئا في اليوم السابق، ثم أعدت لك المسروق غدا وعوضتك عن كل ما لحق بك من ضرر خلال تلك المدة، بل أسبغت عليك الهدايا والعطايا وأظهرت لك حسن نيتي واعتذرت لك عما بدر مني في لحظة ضعف، وقبلت أنت اعتذاري.
وهب كذلك أنك اعتقدت أنني كنت صادقا في اعتذاري وأنني سأفي بوعدي، فهل من الحكمة أن يظل الغضب الذي استبد بك اليوم بذات القدر الذي استولى عليك يوم السرقة؟ ثم هل من المعقول أن تفكر في سرقتي كما سرقتك؟ وماذا لو أنك لم تكتف بسرقة واحدة: هل من المنطقي أن تستمر في سرقتي مرة بعد أخرى؟
ذلك هو التساؤل الذي آثرت أستاذة الفلسفة المساعدة في جامعة شيكاغو آغنيس كالارد أن تستهل به مقالها تحت عنوان "فلسفة الغضب"، المنشور في موقع مجلة "بوسطن ريفيو" الأدبية الفصلية.
تقول الكاتبة إن المرء ينزع في تلك الحالة إلى اعتبار الانتقام غير المتناسب نموذجا لسياسة غير رشيدة. وفي نهاية المطاف، علينا -كما قيل لنا- إما أن ننسى ما حدث ونتجاوز المشكلة، أو أن نحيل رغبتنا في الانتقام إلى شعور صحي جدير بالاحترام.
وقد أثارت تلك الفرضيات جدلا وسط الفلاسفة حول وَجَاهة الغضب، هل ننظر إليه على أنه سخط مبرر أخلاقيا كرد فعل؟ أم ينبغي علينا اعتباره انتقاما يضمر ضغينة مستمرة؟
وتؤكد كالارد أنها ترمي من مقالها لتوضيح مسار الجدل الدائر حول تلك المسألة، لا إلى محاولة التوصل لحل لها.
الرواقية والبوذية
وفي أحد جوانب الجدل، يرى بعض الفلاسفة أن العالم سيكون أفضل حالا لو استطعنا القضاء نهائيا على الغضب، ويستمد هذا الرأي جذوره من الرواقية والبوذية، على حد تعبير الكاتبة.
والرواقية فلسفة تأسست في اليونان قبل الميلاد بنحو ثلاثمئة عام، تقوم على أن مفتاح الحياة الجيدة السعيدة هو الحالة الذهنية الممتازة، عبر الفضيلة والتناغم مع الطبيعة التي نعد جزءا منها، مقابل أخذ موقف غير مبال بالأحداث الخارجية.
أما البوذية التي ظهرت في الهند في القرن الخامس قبل الميلاد، فتدعو للتصوف والخشونة ونبذ الترف والمناداة بالمحبة والتسامح وفعل الخير، لكن أتباع هذه الديانة ما لبثوا -بعد موت مؤسسها بوذا- أن اعتبروه إلها.
وقد كتب الفيلسوف الرواقي رجل الدولة الروماني سينيكا في القرن الأول الميلادي، أن الغضب ضرب من الجنون، وتطرق إلى كيفية التعامل مع آثاره السلبية.
واعتقد سينيكا أن الجيش الروماني المنضبط كان قادرا بانتظام على هزيمة القبائل الجرمانية الغازية الذين كانوا معروفين بالغضب، وقال "في المسابقات الرياضية، من الخطأ أن تغضب".
وفي القرن الثامن الميلادي، أوصى الفيلسوف الهندي والراهب البوذي شانتيديفا الراغبين في سلك طريق التنوير بأن يتخلصوا حتى من أصغر بذور الغضب، ذلك لأن العواطف في أوجها لن تلحق بالمرء سوى الأذى.
عواقب الغضب
وفي العالم المعاصر، تستدل الفيلسوفة الأميركية المعاصرة مارثا كرافن نوسباوم بالروماني سينيكا والإرث الرواقي لتحتج على أن الغضب في حد ذاته سلوك خاطئ، طالما أنه ينطوي على "رغبة دفينة في الانتقام، حاقدة وهدامة".
وتعتبر نوسباوم رد الفعل الصحيح لأي خَطْب أو ظلم تطلعا إلى الأمام يحول دون وقوع أحداث مماثلة في المستقبل. وعلى نفس المنوال، يرى الفيلسوف الأميركي أوين فلانغن أن الغضب في جوهره سلوك عدائي يفترض مسبقا وزورا وجود نوايا مضمرة تتسم بالعنف وتجنح إلى إلحاق الأذى أو الشر بالآخرين، ويستمد فلانغن آراءه هذه من معتقدات بوذية وكونفوشوسية.
الغضب الأخلاقي
وفي الجانب الآخر من حلبة الجدل، يقف فلاسفة يرون الغضب جزءًا أساسيا ومهما من ذخيرة المرء الأخلاقية، فهو ما يستثير حساسيتنا تجاه الظلم ويدفعنا للتمسك بالعدالة.
فغضبك مني يوم الثلاثاء لأني سرقتك في اليوم السابق، يجعلك تضع الشروط التي تحملني على وضع الأمور في نصابها يوم الأربعاء. ويجد هذا الموقف المنحاز للغضب جذوره في فكر الفيلسوف اليوناني أرسطو، القائل إن المشاعر الجياشة هي التي تتيح "للروح" أن ترى القيم الأخلاقية.
كما يجد هذا التفكير تجلياته في فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر من البريطانيين أصحاب النزعة العاطفية الأخلاقية، أمثال إيرل أوف شافتسبري وفرانسيس هاتشسون وديفد هيوم وآدم سميث، الذين رأوا جميعهم أن مشاعرنا هي التي تجعلنا مدركين للاعتبارات الأخلاقية.
وفي وقت لاحق، ضخ الفيلسوف الإنجليزي بيتر ستراوسون في ورقة بحثية نشرها عام 1960 تحت عنوان "الحرية والسخط"، دماء جديدة في تبرير أخلاقية الغضب، بأن جعل العواطف آلية أساسية للمساءلة الأخلاقية.
ويتجلى تأثير ستراوسون المتواصل في أعمال الفلاسفة المعاصرين، من أمثال بروفيسور آر جاي والاس وجيسي برينز وألان جيبارد وباميلا هيرونيمي وجان هامبتون.
ورغم تباين استنتاجاتهم واختلافهم في العديد من الخطوات التي اتبعوها، فإنهم انطلقوا من الفرضية التي تفيد أن العواطف هي ما يجعل البشر يمارسون الأخلاق عبر التأثر بها .
إزالة التناقض
لكن هل هذان المعسكران -الرواقيون وأصحاب النزعة العاطفية- على طرفي نقيض حقا؟ تقول كاتبة المقال آغنيس كالارد إن على كل طرف مناقشة المعطيات التي تلهم الآخر، وحينها فقط يمكن أن يكونا متوافقين.
ويتفق كل من فلانغن ونوسباوم -على سبيل المثال- على أن من يعجز عن الرد على خطأ جسيم ارتُكب في حقه، فإنه يخاطر بالإذعان للشر.
وتتساءل كالارد: ماذا لو أن البشر مارسوا مبادئ الأخلاق من خلال ضغائن تحملهم على الثأر؟ إن من البدهيات -كما تجيب- أن البشر لديهم قابلية للتأثر عاطفيا بالكيفية التي يُعاملون بها، فعندما يخطئ أحدهم بحق الآخر، فإنه يُلحق به ألما مبرحا جراء ما تعرض له من معاملة جائرة.
ومن البدهيات كذلك أن الناس يميلون إلى إصدار أحكام تنم عن حقد وروح انتقام استنادا إلى فرضيات تنطوي على معطيات أخلاقية حقيقية بشأن الظلم والجُرم. وتعتقد آغنيس كالارد أنه لا ينبغي التسرع في اعتبار هذا الاستدلال نشازا أو تجاهله بحسبانه تشنجا نفسيا.
والغضب -قبل كل شيء- ليس رغبة في تصحيح شيء ما بقدر ما هو وسيلة لفهم حقيقة أن ذلك الشيء قد انكسر. إن المرء لا يغضب من شيء بات الآن في الماضي، وليس هناك ما يمكن فعله بشأنه. إن ما فعلته يختلف دوما عما كان يجب عليّ القيام به، ولا يهم ما سأفعله لاحقا، بحسب تعبير مقال بوسطن ريفيو.
وعن فكرة الثأر، تقول الكاتبة إن رغبة المرء في الانتقام -كأن تضمر حقدا دائما على شخص ما- تعتبر عموما جنوحا غير عقلاني وغير مبرر، بيد أن هذا الاستنتاج لا يعدو أن يكون نتاج الفرضية القائلة إن غاية الثأر هو حل مشكلة الغضب نهائيا بجبر الخطأ أو التراجع عنه.
وتخلص كاتبة المقال إلى أن الغضب الذي يستولي علينا أحيانا إذا ما تعرضنا للظلم، ليس غضبا أصيلا يستتبعه الانقياد لدرجة من الفساد الأخلاقي، إلا أن البديل -وهو الانصياع التام- يكون خيارا أسوأ في غالب الأحيان.
المصدر : الصحافة الأميركية