يشاع عن الراهب الروسي راسبوتين أنه نجا من محاولة اغتياله بالسم نظرا لأنه كان يدرب نفسه على تناول كميات ضئيلة للغاية من السموم كل يوم، وقد يكون ذلك ضمن عشرات الأساطير التي نسجت حول الرجل العجيب.
أعجب من راسبوتين
لكن بحثا نشر أخيرا بدورية وقائع الأكاديمية القومية للعلوم (PNAS) سلط الضوء على كائنات تقوم في الحقيقة بشيء أعجب كثيرا من كل أساطير راسبوتين.
فهناك جنس من ثعابين جنوب شرق آسيا يسمى رابدوفيس (Rhabdophis)، وهي ثعابين صغيرة سامة.
لكنها ليست سامة فقط، بل هي أيضا "مسمَّمة"! وربما لن يلاحظ أصحاب اللسان العربي هذا، إذ إن هناك فرقا واضحا في اللغة الإنجليزية بين لفظتي (venomous) و(poisonous) رغم أن المقابل العربي المستخدم لكليهما في الغالب هو: سام.
ولهذا فسوف نفرق هنا بين الوصفين، باعتبار أن الكائن السام (venomous) هو الذي يقوم بحقن ضحاياه مباشرة بعضات أو لدغات سامة مثل الأفاعي والعقارب، أما المسمَّم (poisonous) فهو الكائن الذي بإمكانه تسميم المفترسات التي تحاول مهاجمته أو التهامه، مثل بعض أنواع الأسماك والبرمائيات.
فيها سم قاتل
يقول آلان سافيتزكي الباحث في علم الزواحف بجامعة ولاية يوتاه، والمشارك في الدراسة، "تحمل أنواع ثعابين رابدوفيس، وخصوصا حول الأعناق، غددا تخزن فيها مواد تدعى البوفادينوليدات (bufadienolides)، وهي من الستيرويدات السامة التي تفرزها الفرائس "المسممة" المفضلة لتلك الثعابين.
وتقوس ثعابين رابدوفيس أعناقها المتوهجة بالألوان الصارخة في وضعيات دفاعية تهدد بها المهاجمين بأن عضة واحدة ستجعلهم على موعد مع جرعات مخيفة من السموم.
وقد كان العلماء فيما مضى يعتقدون أن تلك الثعابين تنتج سمومها بأنفسها، لكنهم اكتشفوا فيما بعد أنها تحصل عليها من غذائها، وبالتحديد من العلاجيم والضفادع.
وفي السابقة التي أعلنتها الدراسة، اكتشف سافيتزكي وفريقه البحثي الدولي من جامعات ومعاهد عديدة حول العالم أن ثمة أنواعا من ثعابين رابدوفيس لم تعد تعتمد على الضفادع كغذاء رئيس، وصارت تلجأ إلى ديدان الأرض بدلا منها.
آليات التكيف
وديدان الأرض في الواقع لا تنتج سموما، لكن هذه الثعابين تتغذى أيضا على يرقات اليراعات (الخنافس المضيئة) التي تنتج مواد سامة قريبة في تركيبها للغاية من سموم الضفادع.
يقول سافيتزكي، "هذه الحالة الأولى من نوعها التي توثق تحول مفترس فقاري من التغذي على فريسة فقارية إلى أخرى لافقارية، واللجوء إليها كمصدر بديل للمواد الكيميائية نفسها التي يستخدمها المفترس بدوره كسلاح دفاعي ضد مفترساته الخاصة. وهو ما يعد مثالا لافتا على آليات التكيف التي قد تلجأ إليها الكائنات الحية استجابة للتغيرات التي تلحق ببيئاتها الطبيعية".
ويبدو أن لدى أغلب البشر اهتماما مرضيا بأنفسهم وبنوعهم، يحول بينهم وبين إدراك ما في العالم الطبيعي الكبير من مدهشات، ويحدوهم إلى نسج الأساطير الخيالية عن غرائب ما كان -أو حتى ما لم يكن قط- في حياة الناس، معرضين عن أعاجيب حقيقية تماما تحدث أمام أعينهم وتحت أنوفهم طوال الوقت.
وحتى بين أهل الفن أنفسهم، رأينا مَن يتجاهل تلك الثعابين المذهلة السامة والمسممة -في الوقت ذاته- ويخصص لرجل لم ينجح سوى في الفرار مرة من الاغتيال بالسم أغنية شديدة الجاذبية، يتغنى لحنها الراقص باسمه ويخلده: را.. را.. راسبوتين!
المصدر : الجزيرة