عزيزي كن فقيهاً في الحب
بدايةً يجب علينا أن نُقر بأنِّ الحبِّ فطرة وليس خطئية، فقد زرعه الله فينا بنسب متفاوتة، فبالمحبةِ وللمحبةِ وُجِدنا، وبها ظفرت النفوس بِمطالبِها، وذاقت طعم الإيمان بالله والسير على هدى حبيبه، ونالت الحياة جمالها وكمالها، فذلك أول قصة حُبٍ في هذا العالم حبُ سيدنا آدم لحواء "حيث زعموا أنّ الملائكة سألت أبانا آدم هل تُحبها؟ قال: نعم، ثم سألوا حواء: هل تحبينه؟! قالت: لا، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من الحب. ومن علامة ذلك أنهما أكلا من الشجرة معاً، حتى قيل! إنما أكل منها طاعةً لحواء فحمله حبه لها على أن أطاعها ودخل في هواها".
كثيرون من شباب اليوم للأسف يُفَرطون في استخدام الحبّ ولا يعملون بأن الحبّ صِدقٌ وعطاء، ففي حياتنا اليوم اشاهد الكثير من الشباب على برامج التواصل الاجتماعي من جلسات حول جوالاتهم حيث يظنان العاشقان بأنّ الحياة رحلة حبٍّ محرٍكها الشهوة فقط، ولذلك نراهم لا يتحدثان إلا عن الحبّ والأحلام والمبالغات السينمائيّة. فالعاشقُ يعدُ محبوبته بأنّهُ سيأتي لها بقطعةٍ من القمر، ولن يرضى إلا بأن تكون أسعد إنسانة في الدنيا كلها، وفي المقابل.. هي ستعيش معه في غرفة واحدة، بلّ وعلى الأرض أيضاً، وليس لها أية طلبات أو رغبات، ما دامتْ قد فازت به فذلكَ يكفيها!
وكما قال قائلهم على لسان أحد العاشقين: (عش العصفورة يكفينا)،أطعمني جبنة وزيتونة"، "لقمة صغيرة تشبعنا"،
والكثير الكثير من ذلك الكلام الهزليّ والذي يكون من المُحالِ أن يترجم الى خطوبة وزواج شرعيّ مِثاليّ، وإن تُرجِم سرعان ما ينساه الطرفان أو بالأحرى يتناسيانه بعد الزواج، فهو يَحلُم وهي تَحلُم .. وهو يتألّم وهي تتألّم. وهكذا يبقيانِ يحلمانِ ويتألّمانِ ويتوهان في حبائلٍ الحبٍّ والذي يكون غالباً وهمياً أو من طرف واحد دون الآخر.
كفاك عبثاً بنفسك وكنّ واقعياً.. فالإسلامُ دين واقع ولا يتعامل مع الخيال، ولا يرسم المِثَاليّات التي لا تتحقق، بل شرع لكل شيء ما يناسبه، يُوجِه المشاعِر ويُنظِمُها، لكنه لا يَكبتُها ولا يصادِرها، يدعوك لأن تُحكم عقلك قبل عاطفتك وإيّاك والاستسلام التام لعواطفك، عليك بِبَتر تلك العلاقة إن لم تكن مؤهّلة للتَتْويج بالزواج الشرعي المِثاليّ، وستدرك أن في هذا القطع سلامة لقلبكَ وإيمانكْ، وأنَّ الاستمرار في توطيّد هذه العلاقة لا يؤدّي إلا إلى ازدياد ذروة العشق الفارغ دون الوصول إلى نتيجة سوى التخبّط بأحلامٍ وأوهامٍ وشعورٌ دائمٍ باليأس واحتِضَار تدريجيّ للدين،
فلن تدرك حقيقة ذلك الا بالمعاناة فالأمر ليس بالهيّن ولا بالسهل، بل يحتاج إلى صبر ومجاهدة، وكبح جماع النفس وقطع أواصر ذلك الشعور إذا تفاقم في القلب.
يقول الطنطاوي رحمه الله: "ما في الحب شيء ولا على المحبّين من سبيل، إنّما السبيل على من ينسى في الحبّ دينه أو يضيّع خلقه، أو يشتري بلذّة لحظة في الدنيا عذاب ألف سنة في جهنّم"؛
إذاً علينا أن نعلم أنّ المشكلة لا تكمن في الحبّ بل في استخدامكَ له، فالحبُّ الذي يبقى مقيداً بلجام العفافِ والتقوى لا حرج فيه، وسبيله الوحيد والسريع هو النكاح، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم "ما رأيت للمتحابين مثل النكاح"، أي بمعنى "أنه إذا كان بين اثنين محبة فتلك المحبة لا يزيدها شيء ولا يديمها مثل النكاح"، فلو كان بينهما نكاح مع تلك المحبة، لكانت تلك المحبة كل يوم بازدياد.
فلم يُنكِر الحب، ولم يتهم المحبّين بالعَبث واللّهو! وإنما وضعه ضمن إطاره الطبيعي وهو الزواج، حتى النبي بذاتهِ قد تعجب من حُبّ مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا! تعجب وهو يرى حباً يقابل بِبُغض، فلم يكن حباً متبادلاً، ولم ينكر، ولم يوبخ، بل أفسح للقلوب أن تعبر عما في جوفها، بلّ وحاول أن يشفع عليه الصلاة والسلام لمغيث بعدما رأى كيف تمكّن الحبٌّ في قلبه، فقد روى البخاري في صحيحه من قصة بريرة أن زوجها كان يمشي خلفها بعد فراقها له، وقد صارت أجنبية عنه، ودموعه تسيل على خديه. فقال النبي: "يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا؟!" ثم قال لها: لو راجعتيه فقالت: أتأمرني؟ فقال: إنما أنا شافع. قالت: لا حاجة لي فيه.
وأخيراً قد تسألني عن مادة الحب، فأجيبك أنّ ذاك سِرٌ من أسرار الإله، دقت معانيه لجلالته وصعب على العلماء في فهمه وتفسيره وحار الشعراء في وصفه، إذ القلوب بيد الله يقلبها كيفما يشاء، وكما قال الشاعر:
والحبٌ طفلٌ متى تحكم عليه يقل ..... ظلمتني ومتى حكمته ظلما
إن لم تطعه بكى وإن أطعتَ بغى ..... فلا يريحك محكوماً ولا حَكما
مذ قلتُ دع لي روحي ظل يطلبها ..... فقلتُ هاك استلم روحي، فما استلما
كن فقيها_في الحب