قصة من عالم البرزخ
رحلة البقاء
الجزء الرابع والعشرون
كان لقائي مع أول حبيب لي وأنا في أحضانه، انه عملي الصالح الذي عندما أفقت وفتحت عيني، أطلت علي إشراقته المنيرة وابتسامته اللطيفة.
قال بصوته العذب:
ــ كيف حالك يا سعيد، احمد الله على سلامتك، مدة طويلة مضت وأنا أسعى لخلاصك من المأزق الذي وقعت فيه، ولأنجاتك من بلايا أعمالك السيئة.
لم اصدق ما أرى، هل هو حقيقة أم إنني أعيش في عالم الوهم والخيال؟ بقيت حيرانا انظر إليه أغلق عيني مرة وافتحها أخرى، فبادرني بكلامه مرة ثانية:
ــ سعيد أنا عملك الصالح، أنا رفيقك وهاديك، هل نسيت لقائي معك قبل ثلاثين عاما؟
بدأ يمسح دموعي الجارية فرحا للقائه، إنها دموع لقاء الحبيب لحبيبه، لقاء المشتاق إلى من اشتقت إليه سنين وسنين، قلت له معاتبا:
ــ أين كنت طوال هذه المدة، أنسيت وعدك لي في مرافقتي والدفاع عني عند الشدائد والبلايا؟ لقد قضيت أقسى وأمر العذاب، وما كان لك حضور معي لتواسيني على مصائبي، أو تخفف عني آلامي.
ــ إنني لم أتخل عنك أبدا، وسعيت جاهدا طوال هذه المدة لنجاتك إذ كان لي علم بما تعانيه، وأول عمل أنجزته لك هو ايصال خبر إلى ابنك مرتضى في المنام بأن والده يتعذب بسبب أن عليه دين سابق إلى صديق له اسمه احمد لم يؤده إليه. وفي اليوم التالي ذهب مرتضى إلى العنوان الذي أعطي له، فوجد الرجل قد توفي حديثا، لذلك أعطى المبلغ المطلوب إلى ابنه الأكبر، واخبره بما جرى وبالرؤيا في منامه بشأن والده، وطلب منه براءة ذمة تأخير هذا المبلغ، وقد رأيت اثر هذا العمل بفرار العقرب العالق من قدمك، أليس كذلك؟
ــ آه، الآن فهمت سبب فرار العقرب، جزاك الله عني خير الجزاء، لقد كان يؤذيني كثيرا بشوكته، لا أعاده الله لي.
ــ كما إنني فرحت كثيرا عندما علمت بهدية مرتضى إليك، ومنذ ذلك الوقت سعيت بكل وجودي لخلاصك الأخير من جهنم حتی تمكنت من الحصول على إجازة الجليل الأعلى بمناجاته والتضرع إليه، ومن ثم إذنه تعالى بنجاتك وإخراجك من نار البرزخ، ولم اترك هذا الأمر حتى أوصلتك إلى المكان الذي أنت فيه الآن، كما إنني هيأت لك دار استقرارك ومحل سكناك في الجنان التي سوف نرحل إليها بعد ثلاثة أيام(1).
ــ لا اعلم كيف أشكرك، جزاك الله عني خير الجزاء.
ــ لا تنسى أني خلاصة أعمالك الصالحة، وكل ما استكثرت منها في الدنيا كانت قدرتي على الدفاع عنك أكبر، وجاهي عند الملا الأعلى أعظم.
بينما كنا نتحدث وإذا بثلاثة وجوه منيرة أقبلت علينا، اقتربت أكثر وأكثر فتمعنت فيها وإذا بها نفس الكائنات النورانية التي اجتمعت حولي في القبر، أنها الولاية والصلاة والصوم، جاءوا ليباركوا لي نجاتي وخلاصي من نار البرزخ، اجتمعوا حولي وتذكرت اجتماعهم أيام القبر الأولى ووعدهم لي باللقاء مرة أخرى، كما إنهم وعدوني بعد التهنئة والتبريك بإقامة حفل بهذه المناسبة في الأيام القادمة.
بقينا ثلاثة أيام في هذا المكان الذي كان بمثابة محطة استراحة مؤقتة، وقد توافدت خلالها وفود عديدة من الأنس والملائكة لتهنئني بمناسبة الخلاص من عذاب البرزخ.
انقضت الأيام الثلاثة فأخبرني عملي الصالح بأنه استلم الإذن بمغادرة المكان والانتقال إلى وادي السلام(2)، حيث هناك مستقر المؤمنين، وجنات عدن التي وعد الله عباده المتقين.
تهيأنا للسفر وسألت صاحبي عن كيفية الذهاب فقال:
ــ هناك دابة سوف تأتينا لنستقر على ظهرها ونرحل.
جاءت الدابة وبدأنا الرحيل أنا وعملي، إذ لا رفيق لي غيره، ولا أنيس لي سواه...
سألته في الطريق عن مسائل عدة منها عن جبل النار فقال:
ــ ان جبل النار هو تجسم لصفة التكبر عند الإنسان، وهو الذي قال عنه الله تعالى في كتابه: ( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ) ، ويحوي على أنواع من العذاب هي تجسمات لآثار ذلك التكبر. كما إن درجة العذاب فيه تختلف من شخص إلى آخر تبعا لدرجة تكبره ومعاصيه حتى تصل إلى المتكبرين على الله تعالى، وأما ما كان مقررا لك فهو أدنى درجاته.
ــ وماذا عن الوحوش المفترسة الجائعة في الوادي المظلم المعتم بعد جبل النار؟
ــ إنها حالات الغضب التي كانت تعتريك، وتجعلك كالوحش المفترس لمن تغضب عليه، إذ كنت تنحي عقلك جانبا، ويغمرك ظلام الجهل المعتم الذي لا يسمح لك بالنظر إلى من تغضب عليه إلا بمنظار سورة الغضب الضيقة.
أستمر بنا الحديث ونحن محلقين على الدابة التي كانت تسير بسرعة لا توصف، أظن أن سرعتها كانت تفوق سرعة الضوء، والعجيب أننا كنا لا نشعر بتلك السرعة والاحتكاك مع الهواء وكأننا في طائرة مغلقة مكيفة !
كان يغمرني شوق كبير لرؤية جنان البرزخ التي كثيرا ما قرأت عنها في الدنيا، وشوقي للقاء أحبتي كان اكبر، تذكرت والدي ووالدتي وأهلي وزوجتي، لا أدري أين مستقرهم الآن، وهل نجوا كما نجوت، أم لا زالوا...
بينما كنت غارقا في عالم الفكر والخيال، وإذا برائحة عطرة عذبة تغمر مشامي وتخرجني من عالم فكري. نظرت لما حولي فرأيت خضرة واسعة ليس لها حدود. لم تمض دقائق حتى توقفنا عندها واستقرت أقدامنا فوقها.
استأذنت الدابة للذهاب، وحلقت بجناحيها الشفافين إلى حيث يشاء الله لها.
قال عملي وقد أشار إلى أحدى الجهات:
ــ لنترجل قليلا إلى تلك الأشجار المثمرة حيث هناك نهر ماء عذب وثمار مختلفة.
ذهبنا وأكلنا من أنواع الفواكه التي لا عين في الدنيا رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كانت من الألوان بما لا تعد، ومن الطعم بما لا يوصف، ومن الرائحة بما لا يرغب من يشمها أن يبتعد عنها ويفارقها.
قال عملي:
ــ ان هذا الذي تراه هو مقدمة لجنان البرزخ وما ينتظرك اكبر واكبر.
ماذا سيشاهد سعيد في وادي السلام وماذا اعد له في الجنان.. هذا ما سنرويه لكم ..؟
فانتظرونا مع الجزء الخامس والعشرون ان شاءالله تعالى