في أروقة متحف اللوفر، جدارية ضخمة، رسمها أنطوان جين غرو عام ١٨٠٤ واسمها: نابليون يزور المصابين بالطاعون في يافا.
في مسجد تحول إلى مستشفى ميداني، يزور قائد الحملة الفرنسية على الشام جنوده المرضى، واقفاً في الوسط، مسلطاً عليه الضوءُ كالمسيح إذ يبرئ المجذوم،
يمد يدَهُ العاريةَ وقد خلع قفازَه، غيرَ آبِهٍ بالعَدْوَى، يلمس جسد مصاب عار سَنَدَهُ رفاقه، وقد رفع المصابُ يده اليمنى إلى الأعلى ليُظهِرَ لنابليونَ الدُّمَّلَ الذي تحت إبطه،
وهو من أعراض الطاعون افي مراحله الأخيرة، وينذر بموت المصاب الوشيك.
هذه هي الأسطورة كما ترويها لنا اللوحة، أما ما جرى، فيختلف قليلا: حين غزا نابليون يافا قتل الجنود كل ما يتحرك فيها، الأطفالَ والنساءَ والشيوخَ والرجالَ العزلَ،
وانسحبت الحامية العثمانية إلى إحدى الدور الحصينة، ووصلت التقارير إلى معسكر نابليون على أبواب المدينة أن مذبحة تجري في الداخل،
فأمر ضابطين باستطلاع الأمر، فلما دخلا البلد أخبرهم جنودهم أن الحامية العثمانية انسحبت إلى تلك الدار، فذهبا إلى هناك، فناداهم الجنود العثمانيون أنهم يستسلمون
إن ضمن الضابطان الفرنسيان لهما الأمان، ففعلا، وعادا لنابليون بأكثر من أربعة آلاف جندي مستسلمين. فلما رآهم نابليون عن بعد، قال ما أصنع بهم، لا طعام عندي لهم،
وإن أطلقتهم في الجبال ربما عادوا لقتالي.
وبعد ثلاثة أيام من المشاورة، استقر رأيه ورأي ضباطه على إعدامهم، وفي إحدى الروايات، أنه أمر، لتوفير الرصاص أن يقتلوا طعناً بحراب البنادق،
وأن يضاف لهم الأسرى الذين استسلموا من قبل، ففتك الفرنسيون يومئذ حسب بعض الشهادات، بأربعةِ آلافٍ وأربعمائةٍ وواحدٍ وأربعين إنساناً بين مدني وعسكري أسير.
ورغم أن الطواعين كان تظهر في البلاد بين الحين والآخر، إلا أن هذه المقتلة العظيمة زادت بالطبع من فرص انتشار المرض،
ولم يكن يدري نابليون ولا أطباؤه بعد بأصل الطاعون ولا كيفية انتشاره على وجه الدقة، وقد ذكر عدد من المؤرخين الفرنسيين والانجليز،
أن انتشار الطاعون بدا كعقاب إلهي على المذبحة في يافا، ولكنهم لم يفطنوا للعلاقة السببية المادية بين الحدثين. وكان أهل يافا قد فنوا حتى أن نابليون لم ير ضرورياً أن يترك لحمايتها أكثر من مائة وخمسين عسكرياً صحيحاً وثلاثِمئةِ عسكري أصيبوا بالطاعون.
ثم سار القائد العسكري الفذ إلى عكا، حاول اقتحامها ثلاث مرات وفشل، ثم انهزم راجعاً، وفي طريق عودته مر بيافا، ليجد الطاعون فيها قد قتل من قتل، ولم يبق في المستشفى من المصابين بالطاعون أحياء إلا خمسون أو ستون رجلاً. هنا يروي طبيبه وصيدليه وأمين سره، وثلاثتهم شهود عيان، ما جرى،
ولنقتبس من مذكرات الأخير لوي أنطوان فوفيليه دو بوريان، فقد كان أمين سره وصديقه منذ أن كانا أطفالاً في الثامنة، وقد كتب يقول "كانت بعض الخيم قد نصبت على مرتفع من الأرض قرب البساتين شرقي يافا.
وصدرت الأوامر مباشرة بنسف التحصينات والأسوار حول المدينة. وفي السابع والعشرين من مايو، ما إن أعطيت الإشارة، حتى أصبحت المدينة عارية من أسوارها.
وبعد ساعة من ذلك، ترك القائد العام، يعني نابليون، خيمته ودخل المدينة مصحوبا ببعض الضباط والأطباء والجراحين وطاقمه المعتاد،
وكنت في الجماعة، (والكلام لبوريان أمين سر نابليون)، وجرى نقاش طويل وحسن عن موضوع الرجال المصابين بالطاعون إصابة ميئوساً منها،وكانوا مشرفين على الموت.
وبعد جدل جاد وأخلاقي، تقرر أن نعجل بالسم، موتا كان سيأتيهم على أي حال، فيكونَ موتاً رحيماً بدلا من أن يكون مؤلما وقاسيا" ثم يصف بوريان دخول نابليون المستشفى، فيقول: مر القائد العام (يعني نابليون) مهرولاً من المستشفى، قارعا بسوطه الخط الأصفر في حذائه العسكري، صائحا في المرضى: سيكون الأتراك هنا في غضون ساعات،
من كانت لديه قوة فليقم معنا، سننقلكم على المحفات والخيول. فلم يجبه أحد من شدة المرض، فحدد صمتهم مصيرهم".
ويكمل بوريان فيشرح أن الجنود في طريقهم من يافا إلى الرملة ثم إلى غزة ثم العريش عوداً إلى القاهرة كانوا يلقون رفاقهم إذا ظهر عليهم علامات الإعياء، من المحفات إلى الأرض، ويتركونهم في الطريق خوفا أن يكونوا مصابين بالطاعون، وأن المصابين أو الجرحى كانوا يصيحون برفاقهم إذ يمرون بهم، يا رفاق،
أنا لست مصاباً بالطاعون أن مجروح فحسب انظروا، ثم يفتحون جروحهم حتى وإن كانت قد التأمت، أو ينشئون جروحاً جديدة، ولكن عبثاً. كان رفاقهم يتركونهم.
المهم، في اللوحة كان نابليون قائداً شجاعاً لا يهاب الطاعون يمد يده إلى المريض عارية ليلمس موطن العلة كالمسيح، مضاءً مضيئاً، وفي الحقيقة كان هو من ساهم في إصابتهم بالطاعون أولاً، ومن أمر بتسميمهم لأنهم أصيبوا بالطاعون تالياً. وكذلك صورة الحملة الفرنسية لدى بعض مؤرخينا، وصورة والاستعمار عموماً، ثم صورة الدولة الوطنية التي أنشأها الاستعمار إنشاءً، ورسم حدودها وسلح جنودها، وتسلطت على البلاد والعباد من بعده: صورتهم أنهم جاؤوا نيرين منيرين، ينقذوننا من الاستبداد، ويبشروننا بالحكم العقلاني الرشيد، أما الطاعون، الحقيقي والمجازي الذي جاؤوا به أيضاً فلا يظهر في الصورة.
والمفارقة أن حكم نابليون كان بالحق عقلانياً، بمعنى أنه فعل ما يمليه عليه الحساب المنطقي، قتل الأسرى لأن إطعامهم مكلف وإطلاقهم خطر، وسمم جنوده لأنهم كانوا سيموتون على أي حال فلماذا يعرضون الآخرين للموت...أفليس هذا حكماً عقلانياً؟ ربما كان جنون المظلوم خيراً له من عقل يقترحه عليه ظالمه المشكلة أننا لا نتذكر كثيرا....