قصة من عالم البرزخ
رحلة البقاء
الجزء الثالث والعشرون
ــ هل تعلم من أين أتتك الهدية؟
ــ كلا لا اعلم، اخبرني بالله عليك من أين هي؟
ــ إن ابنك مرتضی لم يزل في عالم الدنيا، وهو الآن شاب مؤمن متدين جمع مبلغا من المال خلال سنة من الجهد والتعب والعناء لغرض شراء وسيلة نقل له ولعائلته، ولكن عندما علم بوجود سبعة عوائل فقيرة في منطقته لا تملك قوت يومها، عزم على تقسيم المبلغ بينها وأهدى ثواب عمله هذا إليك، فأمر الجليل الأعلى بعدم إدخالك في جبل النار وكذلك نجاتك من عذاب عشر سنين أخرى.
غمرتني فرحة شديدة فلم أتمالك نفسي، وكأن روحي تحاول فك القيود والتحليق في عالم الفرحة والسرور، حتى خشيت الوقوع من على ظهر هذا المخلوق الذي لم يزل يقطع المسافات الطويلة حتى أوصلنا المقصد.
لم أكد أضع قدمي أرضا حتى تذكرت أن مدة العذاب المكتوبة في الكتاب كانت إحدى وخمسين سنة وثمانية أيام، قضيت منها ثلاثين عاما، وعفي عني عشرون، إذن بقي عام واحد وثمانية أيام.
آه الويل لي، صرخت صرخة المجنون:
ــ أنا لا أريد العودة إلى النار، لا لا أريد، لا أطيق لحظة واحدة فيها. أراد أحد الملائكة أن يجرني ويأخذني إلى الغرفة المقصودة ولكني أبيت ذلك وأجبته قائلا:
ــ أنني أريد أن أناجي الجليل الأعلى، أريد أن أتوسل وأتضرع إلى ربي، أليس هو الرحمن الرحيم؟ أليس هو ارحم الراحمين؟ أليس هو حبيبي في الدنيا فكيف يتخلى عني في الآخرة ؟!
ألقيت بنفسي ساجدا ودموعي جارية وقلبي منكسرا وأملي منقطعا من كل شيء سوى الله، وقرأت كلمات كثيرا ما ترددت على لساني في الدنيا:
ــ (يا الهي وسيدي وربي أتراك معذبي بنارك بعد توحيدك، وبعد ما انطوى عليه قلبي من معرفتك، ولهج به لساني من ذكرك واعتقده ضميري من حبك، وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعاً لربوبيتك)(1).
اجتمع الملائكة حولي، وأخذتهم الحيرة من أمري فهم لا يعلمون ماذا يجب عليهم فعله، أراد أحدهم الدنو مني، لعله يتمكن من إقناعي بالذهاب، لكني لم أبال بهم، وكنت غارقا في عالم أخر، في عالم عشق الله وشوق لقاءه...
أحسست بقدرة وجرأة أكبر على مناجاة ربي فدعوته قائلا:
ــ (الهي وسيدي وعزتك وجلالك لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن طالبتني بلؤمي لاطالبنك بكرمك، ولئن أدخلتني النار لأخبرن أهل النار بحبي لك)(2).
كان بعضهم يقول لا يمكن لنا إجباره على مغادرة المكان، أنه إنسان مؤمن وفي حال مناجاةٍ لله تعالى، ولو لم يكن مؤمنا لما أجاز الله له ذلك، إذن علينا الانتظار حتى يأتي أمر من الجليل الأعلى.
ازددت شوقا إلى لقاء ربي ومرضاته، وأحسست بانقلاب عظيم في نفسي، حتى بدأت اشعر أن حاجتي إلى الله تغيرت وتجاوزت حدود الخلاص من عذاب سنة أخرى، وأصبحت اطلب النجاة من عذاب فراق ربي(3)، فدعوته مرددان:
ــ (الهي هبني صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك، وهبني صبرت على حر نارك فكيف اصبر عن النظر إلى كرامتك، أم كيف اسكن في النار ورجائي عفوك، فبعزتك يا مولاي اقسم صادقاً لان تركتني ناطقاً لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين، ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين، ولأبكين عليك بكاء الفاقدين، ولأنادينك أين كنت يا ولي المؤمنين...)(4).
ازدادت حيرة الملائكة حولي، وتركوني بحالي ابكي وأناجي، وبينما أنا بهذه الحال وإذا بي اسمع صوت ملك اقبل علينا وهو ينادي:
ــ اتركوه قد انتهى عذابه وعفي عنه، قد جعل الله نفسه شفيعا إليه.
اقترب منا اكثر حتى وصل إلينا وأنا انظر إليه مبهورا، غير مصدق لما أرى. لقد كان وجه ذلك الملك يشع بالنور الساطع والجمال الباهر ويبشر بالخير لمن يراه، ضمني بجناحيه وقال:
ــ ان الجليل الأعلى يبلغك السلام ويقول:
عبدي إنني ما تخليت عنك، ولا طردتك من رحمتي، لكنك كنت تقترب مني مرة وتبتعد أخرى، وأنا دائما أناديك وأدعوك بالتقرب والزلفي لدي، أما عذابك في جهنم فهو لروحك تزكية ونقاء كي تعيش حياة الأبد طاهرا لا يحجبك عني شيء.
بكيت بكاء شديدا عندما سمعت كلام الملك وخطاب الجليل، وصعقت صعقة غشيت على أثرها، فلم أعد أرى ولا اسمع ولا اشعر بشيء، وغرقت في إغماء عميق وعمیق...
كان لقائي مع أول حبيب لي وأنا في أحضانه، انه عملي الصالح الذي عندما أفقت وفتحت عيني، أطلت علي إشراقته المنيرة وابتسامته اللطيفة.
ماذا سيحصل لسعيد بعد ان عفي من العذاب.. هذا ما سنرويه لكم ..؟
فانتظرونا مع الجزء الرابع والعشرون ان شاءالله تعالى