قصة من عالم البرزخ
رحلة البقاء
الجزء الثاني والعشرون
بقيت وأنا بهذه الحالة انظر مبهورا خائفا وإذا بأحد خزنة جهنم يضربني بسوطه ثم يقول:
ــ إن صعود هذا الجبل الذي تراه أمامك يستغرق عشر سنين حتى تصل قمته، وسوف تلاقي فيه مصائب و بلايا وأنواعا من العذاب جديدة منهكة ومؤلمة حتى تصل آخره، ثم يُلقى بك من تلك القمة في وادِ مظلم معتم لا ترى فيه حتى قدميك، قد مُلئ بأنواع من الوحوش المفترسة الجائعة تأكل فيك ولا تشبع، وهي على هذا الحال مدة ثلاث سنين، ثم توضع ممدوداً مقيداً في صندوق من حديد ساخن مدة خمس سنين، وسترافقك فيه أعداد من العقارب القارصة والأفاعي السامة الملتهمة، بعدها يفعل الله ما يشاء.
سكت قليلا ثم أضاف وكأنه يهون علي ما سألاقيه فقال:
ــ إن البعض منهم يستغرق صعوده الجبل آلاف السنين، ويلاقي فيه أنواع عذاب اشد واشد مما سوف تراه وتلاقيه أنت في صعودك، ويبدو لي أنك إنسان مؤمن تقي، لكن لم تزل فيك ملكات فاسدة بدرجة ضئيلة، إذ إنك ما استأصلتها من جذورها، تبعتها أعمال سيئة، فتجسمت جميعها بهذه الصور من العذاب التي سوف تلاقيها في صعودك جبل النار هذا...
أصابني غم شديد وحزن عميق وخوف لا يوصف مما أنا فيه ومما ينتظرني من أهوال وبلايا، لكني أحسست حينها بقدرة التوجه إلى ربي ومناجاته، فبكيت بكاء شديداً، وتضرعت إلى ربي متوسلا، وانطلق لساني مرددا:
(ياغافر الذنب ياقابل التوب ياعظيم المن ياقديم الإحسان، أين سترك الجميل، أين عفوك الجليل، أين فرجك القريب، أين غياثك السريع، أين رحمتك الواسعة...)(1)
اقبل نحونا ملك حسن الوجه، جميل المنظر فاستبشرت من قدومه، وكان كلما يقترب اكثر ينفتح صدري أكثر حتى وصل إلينا، فسلم ثم تحدث مع الخازن المرافق لي بحديث قصير وذهب، وتبعه الآخر بعده !
بقيت وحيدا مبهورا مما حدث متحيرا في أمري وما سيؤول إليه مصيري. أحسست بخفوت النار حولي وبرودة الماء الأسود تحتي حتى اختفى، فقلت في نفسي: أترى حان وقت الاستراحة ! كلا ليس هذا وقتها، إذن لعل زائرا محترما يريد القدوم ! لا أظن ذلك إذ لا زال العذاب قائما على غيري. أترى هو ضوء أمل بالنجاة ! نعم لعله مقدمة لذلك، ولكن بأي سبب، فملائكة ربي لا يخطئون في حساباتهم ولا ينقصون ولا يزيدون في العذاب إلا بأمر من الجليل الأعلى، كما إنني لا زلت مكبل الأيدي والأرجل، ومازال جبل النار يرعبني بضخامته ونيرانه...
آه.. حقيقة عشت بين الخوف والرجاء، واليأس والأمل، فتراني تارة أضحك وأخرى ابكي، وتارة تخنقني حسرة أعمالي التي أوصلتني إلى هذا المقام من الذلة والعذاب.
لم تمض مدة طويلة حتى أتاني خازن آخر ومعه مخلوق غريب لم أرَ مثله من قبل. كان بدنه کالفرس ووجهه كملائكة الغضب وله جناحين كبيرين. تقدم الخازن نحوي وفتح عني قيودي وقال:
ــ لقد وصلتك هدية كبيرة من أهل الدنيا، لذا أمرت بنقلك إلى غرفة بعيدة عن جبل النار، وسوف تستقر فيها حتى يأتي أمر الله.
لا أستطيع أن أصف حالتي ساعة سمعت ذلك، فأصبحت كالمجنون الذي يتخبط هنا وهناك لا يعلم ماذا يفعل، حتى هدأت والملك ينظر لي فقلت له:
ــ اعذرني إنها الفرحة جعلتني افعل هكذا.
لم يجبني بشيء، واخذ بيدي وأشار لي بالصعود فوق ظهر المخلوق الذي معه. انطلق بنا بسرعة فائقة واعتلى محلقا فوق ارض جهنم، فرأيت في طريقنا مشاهد يشيب الرأس لرؤيتها فكيف بمن يعيشها؟
رأيت أعدادا لا تحصى من البحار، ويبدو أنها بحار من المهل والغسلين(2) التي قرأت عنها في عالم الدنيا، ورأيت دورا لا تحصى من الرصاص، وأخرى من النحاس، وأخرى من الحديد، وبينما كنت انظر لها مبهورا قال الملك:
ــ في كل دار منها سبعون ألف تابوت من نار، وفي كل تابوت ألف حية، ومن كل حية يصدر ألف نوع من العذاب !
ورأيت نساء معلقات بشعورهن ويصرخن صراخا شدیدا اختلط مع صوت غليان ادمغتهن، وعليهن سلاسل من حديد ساخن محمر، ورأيت نساء على صور كلاب والنار تدخل في أدبارهن وتخرج من أفواههن، ورأيت نساء معلقات بألسنتهن وصراخهن مثل صراخ الحمير والنار تأكلهن، والحيات والعقارب تلسعهن وتنهشهن.
التفت إلى الملك لعله يوضح لي شيئا مما أرى فتدارك نظراتي إليه وقال:
اللواتي يكشفن شعورهن وزينتهن لغير أزواجهن، والصنفان الآخران اللواتي يؤذين ويلومن أزواجهن من غير ضرورة(3).
اشمأزت نفسي من بشاعة هذه المناظر، وأغلقت عيني وأطرقت قليلا وأردت أن اشغل فكري بأمر آخر، فحضر لدي أمر الهدية التي وصلت من الدنيا وتساءلت في نفسي:
ترى من الذي ذكرني بعد ثلاثين عاما، جزاه الله عني خيرا، ترى هل هي أمي أم أبي ؟ كلا لا أظن انهما في عالم الدنيا بعد هذه المدة، ترى هل هي من زوجتي؟ كلا إنها فارقت الدنيا قبلي. إذن لعلها من أحد أصدقائي؟
آه تذكرت صديقي مؤمن، ليتني اعلم أين هو الآن، هل ما يزال في عالم الدنيا؟ وهل هو الذي أهدى لي ذلك؟ لا اعلم...
وبينما أنا في هذه الدوامة من الحيرة والتفكير وإذا بالملك يسألني:
ــ هل تعلم من أين أتتك الهدية؟
ــ كلا لا اعلم، اخبرني بالله عليك من أين هي؟
ما هي الهدية التي اهدية لسعيد ومن الذي اهداها.. هذا ما سنرويه لكم ..؟
فانتظرونا مع الجزء الثالث والعشرون ان شاءالله تعالى