أخذ التاريخ يذكر اسم السلاجقة منذ أواخر القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وبدأت قوتهم تظهر على مسرح الاحداث في أوائل القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، ثم لم يلبثوا أن أسسوا دولة كبيرة في المشرق العربي الاسلامي، وازدادت شوكتهم ولعبوا دورًا مهمًا في توجيه سير الأحداث، كما كان لهم أثر كبير في تغير الاوضاع السياسية حتى صاروا من أهم الدول التي ظهرت على مسرح التاريخ الإسلامي.

العالم الإسلامي قبيل ظهور السلاجقة
حين قيام دولة السلاجقة في أوائل القرن الخامس الهجري كان العالم الإسلامي تتنازعه الخلافة العباسية السنية في بغداد، والدولة الفاطمية الشيعية في مصر والشام، والدولة الأموية في قرطبة بالأندلس إضافة إلى ذلك كان هناك عدة دويلات أخرى أهمها الدولة الغزنوية في بلاد ما وراء النهر والهند، وكانت معظم هذه الدول تمر باضطرابات داخلية وخارجية أدت إلى تقلبات في الأوضاع السياسية، مما هيأ لدولة السلاجقة الظهور على مسرح الأحداث حتى أصبحت قوة كبيرة.

أصل السلاجقة
شهد التاريخ حركة خروج القبائل التركية من مواطنها الأصلية في أواسط آسيا واندفاعها إلى غربي آسيا وشرقي أوروبا ووسطها، وهي حركة امتدت من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) إلى القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)، وينحدر السلاجقة من هذه القبائل التركية، وينتسبون إلى جدهم سلجوق بن دقاق الذي أسلم هو وجميع من تبعه من رجال قبيلته، وكانت منازلهم في بلاد كشغر الواقعة في غرب بلاد الصين فنزحوا منها في عام 375هـ= 985م بسبب الظروف الاقتصادية السيئة، أو بسبب الحروب التي كانت تدور بين القبائل المختلفة عادة، وقصدوا إقليم خراسان التابع للدولة الغزنوية، وصاروا تحت تبعية الغزنويين.

بعد وفاة سلجوق تبوأ زعامة السلاجقة من بعده ابن الأكبر إسرائيل، وأصبح للسلاجقة قوة عسكرية يُخشى بأسها، فأدرك السلطان محمود الغزنوي مالهم من قوة وبأس، وشعر بمدى الخطر الذي يمكن أن يشكلوه على دولته فقرر القضاء عليهم، ومن ثم قام بأسر زعيمهم إسرائيل.
خلف ميكائيل بن سلجوق أخاه إسرائيل في زعامة السلاجقة، وأدرك قوة السلطان محمود الغزنوي فهادنه وطلب وده، وأخذ يجمع شتات قومه ويتحين الفرصة للانقضاض على أراضي الدولة الغزنوية، ولكنه قتل في إحدى غزواته، فتولى من بعده ابنه طغرل بك.

عهد السلطان طغرل بك
كان طغرل بك فارسًا مقدامًا ويتمتع بشخصية قوية، وذكاء حاد، وشجاعة فائقة، ولذلك وجد تأييدًا كبيرًا ومناصرة عظيمة من شعبه، فأعد جيشًا قويًا ووضع نصب عينيه هدفًا هو إقامة دولة للسلاجقة، ومضى متحديًا في العمل، وسرعان ما استغل فرصة وفاة محمود الغزنوي، وتراجع قوة الغزنويين بعده بسبب التنافس على السلطة، فدخل معهم في معارك وحروب وسيطر على المناطق المجاورة له وزاد نفوذه وقوته حتى استقل بإقليم خراسان التابع للدولة الغزنوية في عام 429هـ= 1037م، وجلس على العرش وأعلن قيام دولة السلاجقة، ثم أرسل رسالة إلى الخليفة العباسي في ذلك الوقت القائم بأمر الله يطلب منه الاعتراف بدولته الجديدة.

اعترف الخليفة العباسي بقيام دولة السلاجقة في عام 432هـ= 1040م، فاكتسب السلاجقة بذلك صفة شرعية، واستطاعوا توسيع حدود مملكتهم بسرعة هائلة، وأخذوا في التوسع على حساب القوى الإسلامية المحيطة، وكذلك على حساب الدولة البيزنطية التي كانت حينذاك قد دخلت في طور من أطوار ضعفها، وبذلك شملت دولة السلاجقة مساحات واسعة من فارس وشمال العراق وأرمينية وآسيا الصغرى.

ثم حدث تطور خطير في سنة 447هـ= 1055م، حيث استنجد الخليفة العباسي القائم بأمر الله بالزعيم السلجوقي طغرل بك لينجده من سيطرة بني بويه على مقاليد الخلافة، وبالفعل استطاع طغرل بك أن يسقط الدولة البويهية، ودخل بغداد في سنة 447هـ، واستقبله الخليفة العباسي، وأمر بأن ينقش اسمه على العملة، وأن يذكر اسمه في الخطبة في مساجد بغداد وغيرها.
وتوطيدًا للروابط بين الخليفة العباسي وبين الدولة السلجوقية، تزوج الخليفة العباسي من أبنة الأخ الأكبر لطغرل بك، وتزوج طغرل بك من أبنة الخليفة العباسي، مما زاد من شأن السلاجقة حتى أنهم حلوا محل البويهيين، ليبدأ عهد السيطرة السلجوقية على الخلافة العباسية، ولا شكَّ أن هذا أعطى مكانه كبيرة لطغرل بك في العالم الإسلامي، مما أدى إلى توحيد أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي تحت سيطرته، خاصةً فارس والعراق وأجزاء من الشام وآسيا الصغرى، ثم لم يلبث أن توفي في سنة 455هـ= 1063م ليخلفه ابن أخيه ألب أرسلان.

عهد السلطان ألب أرسلان
كان السلطان ألب أرسلان كعمه طغرل بك قائدًا ماهرًا مقدامًا، كما كان متلهفًا للجهاد في سبيل الله ونشر دعوة الإسلام، وغيَّر كثيرًا من سياسة دولة السلاجقة في آسيا الصغرى، واستطاع أن يوسع حدود دولته وأن يسجل انتصارات رائعة ضد أعدائه في الداخل والخارج، ومن أهم هذه الانتصارات أنه نجح في أن يهزم الدولة البيزنطية هزيمة ساحقة في معركة ملاذكرد الشهيرة في عام سنة 463هـ= 1071م، بجيش قوامه عشرون ألفًا فقط، بينما كان الجيش البيزنطي مكوَّن من أكثر من مائتي ألف جندي بقيادة رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية، وقد سُحِق الجيش البيزنطي في هذه المعركة، وقُتل منه عشرات الآلاف، وأسر رومانوس الرابع نفسه، وتمَّ فداؤه بألف ألف دينار.

كانت هذه المعركة من أقوى المعارك في تاريخ المسلمين، بل كانت نقطة تحول في التاريخ الإسلامي بصفة عامة، ولكن السلطان ألب أرسلان لم يعش حتى يجني ثمار نصره العظيم ويواصل فتوحاته، فقد قُتل في أحد معاركه على يد أحد الثائرين بعد عام وبضعة أشهر من هذا الفوز الكبير، وتحديدًا في سنة 465هـ= 1072م، ويُعد عصر السلطان ألب أرسلان من أهم عصور سلاطين السلاجقة لأنه استطاع أن يوطد دعائم الدولة السلجوقية حتى ارتفع شأنها ليستشعر العالم في ذلك الوقت قوتها وتماسكها، كما ترتب على قوة السلاجقة في عهد ألب أرسلان ظهور قوة العالم الإسلامي كقوة مرهوبة يحسب لها الأعداء ألف حساب.

عهد السلطان ملكشاه
بعد وفاة السلطان ألب أرسلان خلفه في الحكم ابنه السلطان ملكشاه الذي حكم من سنة 465هـ= 1072م إلى سنة 485هـ= 1092م، وكان أحسن الملوك سيرة حتى كان يلقب بالسلطان العادل، وكان يجلس للمظالم بنفسه، وقد اتسعت الدولة السلجوقية في عهده لتبلغ أقصى امتداد لها، حيث وصلت من الصين شرقًا إلى بحر مرمرة غربًا، وذلك بمساعدة الوزير الفذ نظام الملك، الذي يرجع إليه الفضل الأكبر فيما وصلت إليه الدولة السلجوقية من اتساع ونفوذ وقوة في عهد السلطان ألب أرسلان وعهد ابنه ملكشاه، وذلك بفضل سياسته الحكيمة.

فقد كان نظام الملك في فترة وزارته في دولة السلاجقة يُعد الأستاذ الأعظم والوزير الفذ الملهم، فأمسك بيده زمام الأمور في الدولة، وأشرف بنفسه على رسم سياستها في الداخل والخارج، وحدد أهدافها بل رسم الطرق التي توصل إلى هذه الأهداف، واستطاع بحسن سياسته أن يجعل الأمور منتظمة في أنحاء الدولة، وأن يخمد الفتن التي ثارت طوال مدة وزارته، إضافة إلى ذلك أنه أكسب السلاجقة احترام المسلمين وتقديرهم، كما بث رهبتهم في نفوس غير المسلمين، فخشيهم الروم وسائر حكام العالم في ذلك الوقت.
لم يكن دور نظام الملك في الدولة السلجوقية يقتصر على الناحية السياسية فقط، بل كان له دور كبيرًا في النواحي الأخرى كالناحية الاجتماعية والثقافية، حيث اشتهر ببناء المدارس النظامية التي نسبت إليه في الكثير من المدن مثل بغداد ونيسابور وأصفهان، كما كان عالمًا يحب العلم وشغوفًا به، كما كان من حفظة القرآن الكريم، وكان مجلسه عامرًا بالفقهاء والعلماء، وأهل الخير والصلاح، وكان جوادًا عادلًا حليمًا كثير العفو طويل الصمت، وظل في وزارته حتى تم قتله في سنة 485هـ= 1092م، أي قبل وفاة السلطان ملكشاه بشهر وخمسة أيام.

نهاية السلاجقة
على الرغم من الاتساع الضخم والقوة العظيمة التي وصلت إليها الدولة السلجوقية في عهد السلطان ملكشاه إلا أنها بموته في عام 485هـ= 1092م، انفرط عقدها وتمزقت وحدتها وقوتها، وانتهى عصر القوة والمجد، وبدأت مرحلة الضعف، وذلك بسبب النزاعات والصراعات التي نشبت بين أبناء البيت السلجوقي، حيث ثارت بينهم الحروب الداخلية مما انعكس سلبًا على الدولة السلجوقية.

على ضوء تلك الخلافات انقسمت دولة السلاجقة إلى عدة دول وإمارات صغيرة:
أولًا: دولة السلاجقة الكبرى، واشتهر منه ألب أرسلان وملكشاه وبركيا روق، وظلت تحكم أقاليم واسعة أهمها العراق وإيران، وكانت لها السيطرة المباشرة على الخلافة العباسية.
ثانيًا: سلاجقة كرمان (جنوب إيران ومنطقة باكستان)، وهم عشيرة قاروت بك بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وهو أخو القائد الكبير ألب أرسلان.
ثالثًا: سلاجقة عراق العجم وكردستان (في شمال العراق).
رابعًا: سلاجقة الشام، مؤسسها تتش بن ألب أرسلان، وهؤلاء انقسموا على أنفسهم عدة انقسامات، وفتَّتوا الشام إلى عدة إمارات.
خامسًا: سلاجقة الروم بآسيا الصغرى، ومؤسسها سليمان بن قتلمش في عام 470هـ= 1077م، وهم بيت قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق، وانتهت أيضًا على أيدي المغول الإيلخانيين في عام 704ه= 1304م.
وعلى الرغم من عجز الدولة السلجوقية عن توحيد بلاد الشام ومصر والعراق تحت راية الخلافة العباسية في ذلك الوقت، وعلى الرغم من أن الانقسام الداخلي بين السلاجقة أنفسهم بعد وفاة السلطان ملكشاه والذي وصل الى حد المواجهة العسكرية فيما بينهم، وهو ما أنهك قوتهم حتى انهارت سلطنتهم، إلا أنهم كانت لهم أعمال جليلة وانتصارات عظيمة باهرة، وجهاد طويل ضد البيزنطيين وضد الصليبيين ما زالت محفورة في ذاكرة التاريخ[1].


[1] انظر: محمد بك فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1981م، ص61- 68، وعبد المنعم محمد حسنين: دولة السلاجقة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1975م، ص7- 133، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، دار النفائس، بيروت، لبنان، 2002م، ص15- 53، وراغب السرجاني: قصة الحروب الصليبية، شركة أقلام للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1434هـ=2013م، ص 28- 34.
قصة الإسلام