.
هَوَاءُ العَائِلةِ
…
I
هُنَا كانَتْ دارُنا القديمةُ.
هُنَا وُلِدْتُ.
هُنَا كانَتْ جدَّتي تقعُدُ في كلِّ عَصْرٍ.
هُنَا كانَتْ عَنْزَاتُهَا.
هُنَا كانَ الحمَامُ.
هُنَا كانَ المُلتقَى.
هُنَا كنَّا نُعَيِّدُ كُلّنَا.
هُنَا ظَلَّتْ جدَّتي
ولمْ تَسْتَجِبْ
لأحَدٍ منْ الأبناءِ.
هُنَا ماتَتْ جدَّتي
على سريرِهَا النُّحاسِيِّ ذِي الأعْمِدَةِ الطَّويلَةِ
والسِّتارَةِ المشغولَةِ بأوْرَاقِ الزُّهورِ
ماتَتْ وَحْدَهَا.
هُنَا كنَّا نعيشُ.
II
ممدًّا على سَريرِكِ النُّحاسِيِّ، وفي يديْ كتابٌ
أوْ جَالِسًا على الأرْضِ جنبكِ يا جدَّتي
أتكشَّفُ عَوَالمَ لا تنتهِي
في تهاويْلِ الحائِطِ الطِّينيِّ المتسَاقِطَةِ عنْهُ ألوَانُ الجِيْرِ.
III
تجعلينَ مِنْ فخذِكِ وسَادَةً لي
تمسَحِينَ على رَأسِي
وتقُصِّينَ عليَّ حِكَايَاتٍ مِنْ طفولتِكِ
ثمَّ طفولةِ أخْوَالي وأمِّي
تأخُذِينني إلى السُّوقِ دائمًا مَعَكِ
في كلِّ مرَّةٍ تُحْضِريْنَ لي كوبًا مِنْ السُّوبيا المثلَّجَةِ
تحمِلِينني في الزِّحَامِ
تأخُذِينني في زيَارَاتِ المقابرِ
وفي الأعْيَادِ والمناسَبَاتِ
وكُلَّمَا اسْتيقظْتُ في الليْلِ عَطْشَانَ يَا جدَّتي
تكونيْنَ في انْتِظَاري؛ فَتَسْقِينَني كَرَضِيْعٍ
تتعلَّقُ عيناهُ بحنانِكِ الزَّائدِ،
ثمَّ تُعِيْدِينَني إلى النَّومِ مِنْ جَدِيدْ.
IV
كانَ منْ المُمكِنِ مثلاً أنْ أشُدَّكِ بأقْصَى مَا أسْتطِيعُ
أنْ أصْرُخَ فتنتبهِيْنَ يا جدَّتي أنْتِ أوْ أمِّي
فتدفَعَانني بعيدًا عنْ عمودِ الكهربَاءِ
الَّذي تشبَّثَ بي، حِيْنمَا عانقتُهُ
وأنَا أسِيرُ إلى جِوَارِكُمَا شَاردًا
في ظلامِ الشَّارعِ وبَرْدِهِ
وأنتُمَا مُنْهَمِكَتَانِ في حَدِيثٍ
يتعلَّقُ بخروجِنا في هذِهِ السَّاعَةِ منْ ليْلِ الشِّتاءْ.
V
أصْعَدُ السُّلمَ الخشبيَّ إلى سَطْحِ الدَّارِ
وأُطْلِقُ طيَّارتي الورقيَّةَ إلى أعْلَى فَضَاء
تتموَّجُ كُلَّمَا أرْخيْتُ لها الخيطَ بمِقْدَارٍ
وتختالُ رَاقِصَةً بغَمَزَاتي
ولعِدَّةِ مَرَّاتٍ تكادُ أنْ ترفَعَني إلى الأعَالي.
VI
فَجْأةً ومِنْ دونِ أيِّ مُقدِّمَاتٍ
رأيتُهُ أمَامِي مُبَاشَرَةً
الثُّعبَانَ الأزْرَقَ الطَّويلَ
على بُعْدِ خُطْوَةٍ منْ قدمَيَّ
يَسُدُّ الطَّريقَ مَا بينَ سورِ السَّاحَةِ الشَّعبيَّةِ والغيطِ
فلمْ أسْتطِعْ أنْ أقفِزَ مِنْ فوْقِهِ
ولا أنَا جَرُؤتُ على الرُّجوعِ مُسْرِعًا
وكادَتْ الكُتُبُ أنْ تسْقطَ منْ يدِي
ودَاهمتنِي رَغبةٌ في التَّبوُّلِ
لَسْتُ أعرفُ كيفَ بدأْتُ التَّراجُعَ
وقلبي يتخلَّعُ مِنِّي
طِيلَةَ الطَّريقِ إلى دارِنَا.
VII
تَتَشَقَّقُ الجُدْرَانُ في كُلِّ ليْلَةٍ يَا جدَّتِي
وَأنَا مُسْتيقِظٌ وَحْدِي
مُرْتَعِدًا تَحْتَ الغِطَاءِ.
VIII
سَطْحُ الدَّارِ، هُوَ المكانُ الأثيرُ لديَّ
آوي إليْهِ، خُلْسَةً، على
دَرَجَاتِ السُّلَّمِ الخَشَبيِّ، وَمَا بَيْنَ
جرَارِ الجُبْنِ القَدِيمَةِ، وَبَقايَا الأشْيَاءِ، أسْتَنِدُ
على الحَائطِ الطِّيني الخَفِيْضِ
مُسْتَمْتِعًا بتفاصِيْلِ المشْهَدِ الكُلِّيِّ.
IX
قُبيلَ أيِّ امتحانٍ لا أسْتطِيعُ النَّومَ ليلاً
فلمَاذَا تُعذِّبينَ نفسَكِ بالجلوسِ إلى جَانبي
أنْتِ تنامِيْنَ وأنْتِ قاعِدَةٌ
قُومِي أنْتِ ولا تشْغلِي بالَكِ يا جدَّتي.
X
لماذَا كلَّما عَبَرْتُ منْ الشَّارعِ المؤدِّي إلى مدرسَةِ النَّهضَةِ الابتدائيَّةِ
تتقدَّمُني عينايَ إلى مَدْخَلِ المدْرَسَةِ
مُنْتَظِرًا خُروجِيَ أتعثَّرُ في زِحَامِ الأوْلادِ
وباحثًا عنْ أحْضَانِ الجدَّةِ المنْتَظِرَةِ أمَامَ البَابْ؟.
XI
المرعِبُ في المسْألَةِ أنَّهَا كانَتْ صَدِيقَةُ أمِّي
الجَارَةُ الَّتي اسْتَوقَفَتْنِي في طريقِ عَوْدتِي
وَأنْبَأتْنِي أنَّهَا سَتَصْعَدُ لِي
لأكْتُبَ رِسَالةً إلى زَوْجِهَا
المرْأةُ الَّتي أهْمَلَتْ الرِّسَالةَ، وَحَرَّرَتْ جَسَدِي
وَقَادَتْنِي إلى مَجَاهِلَ، لمْ أزَلْ أتَخَبَّطُ فيْهَا.
XII
صَبَاحَ يومِ عِيْدٍ
أنْتِ تسيرينَ في غَبْشَةِ مَا قبلَ الشُّروقِ
وأنَا أتشبَّثُ بطَرْفِ جِلْبَابِكِ الأسْوَدِ
في الطَّريقِ المؤدِّيةِ إلى المقَابرِ
أنْتِ شَاردَةٌ يا جدَّتي
وأنَا أتأمَّلُ صَحْوَةَ العِيْدِ
في الطَّريقِ المؤدِّيَةِ إلى المقَابرِ.
XIII
لمْ أكُنْ بينهُمْ وهُمْ يُشعِلُونَ النَّارَ في المنزلِ المواجِهِ
كُنْتُ جَالِسًا على عتبَةِ الدَّارِ وَحْدِي
ولكنَّهُمْ أخبروكِ بأنَّني أنَا الَّذي أشْعَلْتُ
كيفَ هنْتُ عليكِ إلى هذَا الحدِّ
ولمْ تُصَدِّقي رُعْبِي ورَجَائِي وصُرَاخِي
وأنْتِ تُشعِليْنَ في يدَيَّ ورِجْليَّ نيرانًا وتقولينَ:
سَأُريكَ مَا الَّذي تَصْنَعُ النَّارُ يَا شَريفُ؟
كيفَ مَرِضْتُ أيَّامًا، ومَرِضْتِ بي، حتَّى النِّهايَةِ، يا أمِّي؟.
XIV
حَرَامٌ عليكِ واللهِ يا أمِّي
يَشْتُمُونَ فأشتمُهُمْ؛ فلا يعنيكِ سِوَى أنَّني أشتُمُ
ولا تَسْتَمِعِيْنَ إلى أيمَاني،
وأنْتِ واثِقَةٌ أنَّني لسْتُ أكذِبُ.
XV
مُدرِّسُ الألعابِ
البدينُ
ذو الكِرْشِ
والعَصَا الغليظَةِ والسِّبابِ
الَّذي يتصوَّرُ أنَّنا نُصدِّقُ أنَّهُ بَطَلُ الجمهوريَّةِ في المصَارَعَةِ
لمجرَّدِ أنَّهُ مُدرِّسُ الألعَابِ!
هُو الَّذي هَوَى بعَصَاهُ على ذِرَاعِي يا أمِّي
لمجرَّدِ أنَّني – أثناء طابورِ الصَّباحِ – تعلَّقتْ عيناي بطائرٍ
ينطلِقُ إلى الأعَالي
واللهِ مَا تَشَاجَرْتُ مَعَ أحَدٍ
ولا ضَرَبَنِي عيِّلٌ مِنْ العِيَال.
XVI
تعلمِينَ أنَّني لا أُطِيقُ أكلَ اللحومِ
ولكنَّكِ لا تكُفِّينَ عنْ المحاولةِ
وكِلانَا يتعذَّبُ يا أمِّي
أنْتِ تُحَذِّريننِي، في كلِّ مرَّةٍ، بأنَّني سَأنشَأُ بغيرِ جُهْدٍ
أمَّا صُويحباتُكِ، فكُنَّ يَسْألننِي، بنبرَاتٍ ذاتَ مَغْزَى:
وَمَاذَا ستفعلُ حِينمَا سَتَتَزَوَّجُ؟
إحْدَاهُنَّ قالتْ: ولاَّ لنْ تأكلَهَا إلاَّ على يدِ امْرَأتِكَ؟.
XVII
لنفترضْ مثلاً يا أبي أنَّني أخْطَأْتُ
يُخْطِئُ العيِّلُ ويجرِي إلى أحْضَانِ أبيهِ
ألسْتُ ابنَكَ البِكْرَ الَّذي تمنَّيتَنِي
وطلبتَنِي منْ اللهِ؟
وعلى الرَّغمِ منْ أنَّكَ لمْ تأخُذْني إلى أحْضَانِكَ مَرَّةً
أو تأخُذْني إلى رِحْلَةٍ
– كمَا يحدُثُ في المُسَلْسَلاتِ والأفْلامِ –
فإنَّني لمْ أُخْطِئْ يومًا الطَّريقَ إلى محبَّتَكَ.
XVIII
لأنَّكَ لمْ تكُنْ تتحمَّلُ بُكاءَ طِفْلٍ
يَتَصَادَفُ في مَرَّاتٍ عديدَةٍ أنْ أكونَ إلى جِوَارِكَ في طريقٍ
وَنَرَى طِفْلاً يتعذَّبُ على يَدَيْ آخَرٍ
الولدُ يبكِي والآخَرُ يَضْرِبُ في جُنُونٍ
تنتفِضُ فَجْأةً وتُخلِّصُ الَّذي يبكِي
تَنْهَرُ الآخَرَ؛ فيجرِي، ويُمْطِرُنَا بالحِجَارَةِ.
لا يعنيكَ سِوَى أنْ تمسَحَ دموعَهُ، وتنفِضَ عَنْهُ الغُبَارَ
، ويمشِي مَعَكَ مَكَاني يا أبي.
XIX
يدِي في يدِكَ
وَنَحْنُ نَقْطَعُ طَريقَ العَودَةِ الليلِيِّ
وَدَائِمًا أتَعَثَّرُ في شَيءٍ
وَتَنْهَرُنِي يَا أبِي.
XX
لمْ أكُنْ أعْلَمُ أنَّ انفجَارَ جمجمةٍ يُمْكِنُ أنْ يُحْدِثَ كُلَّ هَذَا الدَّويِّ
كُنْتَ مُنْطَلِقًا بدراجتِكَ الجديدَةِ إلى آخِرِ الحارَةِ مُسْرِعًا
وكُنْتُ أُناديْكَ أنْ تنتظِرَ، وأنْتَ تضحَكُ
لم تكَدْ تُغاَدِرُ الحارَةَ وتتجِهُ إلى الشَّارعِ حتَّى سمِعْتُ انفِجَارًا
وصِيَاحًا جماعيًّا.
كانَتْ هيَ المرَّةُ الأُوْلى الَّتي أرَى فيْهَا الموْتَ وَجْهًا لوَجْهٍ.
XXI
هُو أصْلاً كانَ يُمثِّلُ علينَا كثيرًا
ولهذَا لمْ نُصَدِّقْ ونحنُ نُنَاديهِ ونهزُّهُ أنَّه مَاتَ
بحثْنَا عنْهُ كثيرًا حتَّى وَجَدْنَاهُ بينَ المقَابِرِ
هتفْنَا ونحنُ ننقضُّ عليْهِ منْ كلِّ جانبٍ
ونَسْخَرُ منْ سكونِهِ وثباتِهِ الكامِلِ
وفجأةً شعرْنَا بالموْتِ يُحيطُ بنا منْ كُلِّ نَاحِيَة.
XXII
لماذَا أُحِسُّ – بينَ وقتٍ وَآخَرٍ-
وأنَا أتطلَّعٌ إليكُمَا معًا
أنَّني غريبٌ عنْ هذِهِ العَائلَةِ
وأنَّني في الحقيقَةِ لسْتُ مِنْكُمَا أصْلاً
وأنَّني أعيشُ تمثيليَّةً كئيبةً
فكَّرْتُ أنْ أكتبَهَا يومًا مَا في قصَّةٍ بعنوانِ: المجهولْ.
منقوول