قصة من عالم البرزخ
رحلة البقاء
الجزء الحادي والعشرون
لقد تغير كل شيء وهدأت جميع النيران، وغابت جميع مجسمات أعمالي السيئة لأعيش حينها حالة من الراحة والسكون.
سمعت أصواتا ما كانت غريبة عني فأصغيت إليها جيدا وإذا بها أصوات أهلي يتحدثون فيما بينهم، ثم ظهرت أمامي صورهم وقد اجتمعوا حول قبري(1)، نعم ها هي والدتي تدعو لي وتبكي، وها هو أخي يتلو القرآن، ما أجمل صوته وأعذب لحنه، وهذه أختي تمسك مرتضی بيدها وتحاول قراءة شيء من الكتاب الذي بيدها الأخرى، جزاها الله عني خير الجزاء... هممت بالتقدم نحو صورهم وإذا بصوت يناديني:
ــ لا فائدة من ذلك، اكتف بالنظر إليهم والأنس بوجودهم حول قبرك.
فهمت المعنى وبقيت انظر إليهم وأتمعن في صورهم وأحسست بأنس عظیم باجتماعهم هذا ولكن...
صرخت أختي الصغيرة وسط الجمع، وسرعان ما أسكتها أخي قائلا لها:
ــ لقد أوصانا سعید بزيارة قبره بين الحين والأخر حتى قبل يوم أربعينه، وقد عملنا بوصيته رغم مخالفة ذلك لتقاليد مجتمعنا(2)، كما انه أوصانا بعدم صراخ النساء على قبره، وعدم ارتداء لباس الحزن عليه مدة طويلة، فهل نسيتي ذلك يا أختاه؟
قالت:
ــ لا والله مانسيتها ، فانا التي قرأتها عليكم، ولكن لا طاقة لي بفراقه، وكلما دعوت نفسي إلى الصبر غلبني شيطاني ودعاني إلى الصراخ والبكاء بصوت عال بحجة أن ذلك يخفف عني ألم هجرانه.
تمنيت أن لا يغادروا قبري ولكن ليس كل ما يتمناه الإنسان يناله، فقد اقترب موعد الرحيل ثم تركوني وذهبوا، وعاد كل شيء إلى مكانه، وتوقدت النيران من جديد، وظهرت أعمالي السيئة بهيئتها الموحشة المظلمة مرة أخرى وهي تحمل في داخلها حقد عظیم...
مضت فترة أخرى في جهنم كنت خلالها متعجبا ومتألما من العقرب العالق في قدمي كيف لا يمل ولا يهدأ، وكيف لا يحترق بتلك النيران وحرارتها العالية..
وذات يوم سمعته صرخ صرخة عظيمة، وأخرج شوكته، فنظر لي نظرة حقد وسخط ثم لاذ بالفرار بعيدا، وحينها ما وجدت سببا لتصرفه هذا، ولا علمت حدثا يستوجب فراره هكذا، فقلت في نفسي لعل الأيام ستكشف لي ذلك.
ذات يوم اخبرني أحد خزنة جهنم أن غدا سيكون العذاب من نوع جديد، وهو صعود جبل من نار، وسيكون عذابه لي ذا درجة قليلة نسبة مع من يتسلقه من أصحاب الذنوب والمعاصي، وقال أيضا: سيكون العذاب على كل فرد يختلف عن الآخر تبعاً لدرجة معاصيه وملكاته الفاسدة.
جاء الغد وإذا بالملائكة يأتون بأشكالهم المخيفة، ويجرونني ذليلا على ارض جهنم الملتهبة نيرانها، فلا ادري من أي آلام اصرخ واستغيث، من حرارة النار تحت قدمي، أم من جروح بدني الحارقة، أم من اثر سياط الملائكة الموجعة، أم من أثر الأشواك الحادة فهي كالسكاكين المبعثرة هنا وهناك، أم من لدغات العقارب والأفاعي والتي اخذ كل منها سهمه مني، أم من الوحوش المرعبة التي ما تركتني حتى غرزت أنيابها في بدني، فقلت عجبا لأعمالي التي تجسمت بهذه الصور فأصبحت قطاع طرق لي، وعجبا لنفسي أن كنت غافلا عنها فلم أطهرها يوم كانت لدي الفرصة لفعل ذلك. وعجبا أن كل ما لاقيته الآن هو في طريقنا إلى جبل النار، فكيف إذا وصلنا إليه، أم كيف سيكون العذاب فيه وأنا بهذه الحالة من الضعف والعطش والجوع…
وصلنا المقصد فألقوا بي أرضا، مكبل الأيدي والأرجل على ارض يجري فوقها ماء اسود كالقير، يغلي كغلي القدور، والنار ملتهبة مشتعلة فيه وقد أحاطت بي من كل جانب.
ذهبوا عني وتركوني أتلوع وأتضرع، فنظرت أمامي وإذا بجبل عملاق لا ترى قمته ولا تهدأ نيرانه، قد أحيط بسور عظيم، وأمام السور ملائكة شداد غلاظ ذوي هياكل ضخمة ووجوه مرعبة، قد وقفوا بهيأة محكمة وصفوف منتظمة. بقيت وأنا بهذه الحالة انظر مبهورا خائفا..
ماذا ستفعل الملائكة بسعيد وهل سوف تعذبه.. هذا ما سنرويه لكم .؟
فانتظرونا مع الجزء الثاني والعشرون ان شاءالله تعالى