قصة من عالم البرزخ رحلة البقاء
الجزء العشرون



آه ثم آه، ألمي لا يوصف، وعذابي (رغم قلة درجته على قول الملك) لو قسم على أهل الدنيا جميعاً ما تحملوه. لقد كانت حرارة النار تدخل إلى أعماق قلبي فتحرقه قبل بدني(1)، وأي نار ! أظن أن حرارتها لو مست جبال الأرض لانصهرت، ولو سقطت شرارة منها على بحار الأرض لتبخرت.
كنت أسمع في الدنيا وأقرأ عن نار الآخرة وأتصورها بما يتناسب مع تخيلاتي المحدودة في ذلك الوقت، أما الآن فان روحي بعينها تذوق العذاب وهي حاضرة فيه لا خارجة عنه، وشتان بين الاثنين.
أصابني عطش شديد، لذا كنت حين تقلبي انظر هنا وهناك بحثا عن الماء، فرأيت أحد ملائكة الغضب يحمل إناء اسود يتصاعد منه بخار، ويُسمع منه صوت فوران ما بداخله، أدناه مني فانشوى وجهي لشدة غليانه، وكنت مترددا بين قبوله ورده، لكن يبدو أن لا خيار لي في ذلك، فقد أراقه في فمي دون أن ينتظر، وليته لم يرقه، لقد كان حميما وأي حميم، قطع أمعائي لشدة غليانه(2) ، فازددت ألما وعطشاً فوق ألمي وعطشي، وندمت حتى على نيتي في طلب الماء وشربه.
قال الملك وقد ضربني بسوطه مستهزئا:
ــ كيف كان طعم الماء؟
لم اجبه فقال:
ــ انه (مَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)(3)، وهناك نوع آخر من الماء هل تريده؟
ــ أجبته بصوت ضعيف وشفاه يابسة:
ــ نعم.
تناول إناء آخر وأراقه في فمي فإذا به أسوء من الأول، لذا قذفته خارجا بعد أن ترك في حلقي مرارة لا تطاق، فقلت له:
ــ أتقول عن هذا انه ماء ؟!
قال:
ــ انه ماء صديد، يخرج مع الدم الذي يسيل من اثر جروح أهل جهنم(4).
أحسست بجوع شديد حتى إنني لم أعد أقوى على الحركة، بل حتى على التقلب يمينا وشمالا. رفعت رأسي قليلا بحثا عن الطعام فرأيت شخصا يصرخ صراخ المجنون بعد أن دخلت أفعى عظيمة في فمه ثم خرجت من دبره، وبدأت تلدغ في وجهه وبدنه والنار ملتهبة تحت قدميه.
نحيت بصري عنه لبشاعة منظره، وإذا بسوط أحد الملائكة يهزني، رفعت رأسي نحوه فقال:
ــ هل تريد طعاما.
أجبته بصوت خافت متقطع:
ــ نعم
لم يمكث طويلا حتى أتي بإناء ممتلئ، قربه مني فنظرت لما فيه وإذا به طعام على هيأة نبات ذي أشواك حادة ورائحة نتنة كريهة.
فتح السلاسل من يدي وأشار لي بتناوله. أخذت الإناء وتناولت ما فيه، وليتني لم أتناوله ولم اطلبه، لقد مزق حلقي فلا يدخل فيه ولا يخرج منه، ولم اقذفه إلا بشق الأنفس وجهد جهيد، فقلت له عجبا من طعام !
نظر لي الملك وقال:
ــ ( إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا)
قلت له:
ــ من أين أتيت بهذا الطعام؟
قال:
ــ أنت صنعته لنفسك في دنياك، فأتيت به من خزانة أعمالك.
ــ عجبا، وكيف اصنع لنفسي طعاما كهذا؟
ــ أكلك مال الحرام تجسم بهذا الشكل من الطعام، كنت لا تراعي في وقت عملك انك أجير لثمان ساعات يوميا في شركة أبرمت عقدا معها، فتأتي متأخرا أحيانا، أو تخرج منها مبكرا دون عذر شرعي يجوز لك ذلك.
مضت ساعة وإذا بي اسمع ضجيج أناس يصرخون. زاد الضجيج شيئا فشيئا لاقترابهم مني فتمعنت فيهم وإذا بهم مجاميع مجاميع من أناس ذات وجوه وأبدان سوداء والنار محيطة بهم، ونار أخرى تخرج من أفواههم وآذانهم، وهم في حالة هول وذعر شديدين، يركضون وكأنهم قد فروا من فزع عظيم. أصغيت إلى صراخهم فسمعتهم يقولون: أين نهر الماء.. أين نهر الماء !
جمعت قواي وقمت من مقامي وتبعتهم أملا في ايجاد نهر ماء كما يزعمون، ولم يمض وقت حتى اقتربنا من ضفة نهر كبير، وما أن وصلوا إليه حتى ألقوا بأنفسهم فيه إلا أنا إذ وصلت متأخرا فهممت باللحاق بهم ولكني سمعت صراخهم قد تضاعف، وعويلهم قد عظم. نظرت إليهم فرأيتهم يصرخون ويستغيثون وسط نهر يغلي غليانا شديدا علمت فيما بعد أن مادته كانت من النحاس المذاب ذات الحرارة العظيمة. حمدت الله أني لم أكن معهم، ويبدو أن لدي من الأعمال ما منعتني من ذلك.
هممت بالعودة وإذا بي أرى مجاميع أخرى في حالة ركض شديد نحو جهة أخرى، وتلاحقهم ريح ذات حرارة وسموم حتى وصلتهم وأحاطت بهم ودخلت في مسام أبدانهم، فبدأوا يصرخون ويستغيثون، وكلما رأوا غيمة سوداء هربوا إليها ليستظلوا بظلها، فإذا هي الأخرى تبدو وكأنها دخان اسود غليظ يمطر عليهم بكتل من نار ملتهبة(5) لا تخطئ في هدفها ولا ترحم من تحتها.
انتهت فترة عذاب الصباح وكأنها استغرقت سنين طويلة لشدتها وقسوتها، فهدأت النار وانطفأت من تحت أقدامنا، واختفي سواد دخانها من أنظارنا، وشعاع لهيبها عن أعيننا، ورفعت سياط ملائكة الغضب عن أبداننا، وأعلنوا بدأ الاستراحة حتى الليل، حيث وجبة العذاب التالية(6) ...
كان يتكرر ذلك يوميا غداة وعشيا، وبين فترة وأخرى يتغير نوع العذاب إلى آخر، لذا رأيت أنواعا عجيبة غريبة ذات قسوة شديدة لا تتصورها عقول أهل الدنيا، فكيف بمن يعيش فيها ويتحملها.
ذات يوم وبالتحديد بعد خمسة أيام من دخولي في جهنم، كنت أعيش حالة عصيبة من المرارة والألم وسط حرارة النار المشتعلة حولي، إذ كان عرقي يخرج من رأسي وبدني ويجري عليه ثم يتخذ سبيله إلى الأرض التي تحتي، فأراه يتبخر فورا لشدة حرارتها وعظيم الهيبها، وبينما أنا في هذه الحالة إذ جاءتني نسمة هواء باردة، فغمرتني بعذوبتها وأطفأت النار من حولي، وجرى من تحتي ماء ! لا اصدق ما أری، نعم إنه ماء يجري، وها هي قدماي تبتل منه. غرفت منه غرفة لأتيقن أن ما أراه حقيقة لا خيال، وقد كان كذلك.



ما سبب حلول نسمة الهواء وما هذا الماء الذي ظهر لسعيد.. هذا ما سنرويه لكم ..؟
فانتظرونا مع الجزء الحادي والعشرون ان شاءالله تعالى