قصة من عالم البرزخ
رحلة البقاء
الجزء التاسع عشر
حملني إلى غرفة أخرى، ودخلنا فيها فرأيت ملكا قد وضع أمامه لوحا عظيما، فلما رآني قال للمأمور معي:
ــ ما أسمه وما رمزه؟
ذكر المأمور اسمي الكامل ورقم طويل تتخلله أحرف وكلمات لم افهمها، بعدها خاطبني الملك قائلا:
ــ اجلس هنا.
أشار إلى كرسي كان في الغرفة فجلست عليه وقال:
ــ هل ترى هذا الكتاب(1)؟
ــ نعم أراه، ولكنه ليس بكتاب كما اعرفه!
ــ ليس بالضرورة أن يكون كتاب البرزخ بنفس صورته في عالم الدنيا، بل يكفي أن يؤدي وظيفة مشابهة لما كان يؤديها، فيطلق عليه هذا الاسم.
توقف قليلا ثم استأنف كلامه فقال:
ــ إن لكل إنسان يدخل هذا الوادي مقدارا معلوما من العذاب وفترة تتناقص مع كل لحظة تمضي عليه، وهذه المدة لا تزيد ولا تنقص إلا بإذن الله، كما إن ذلك مرتبط بما تركته في دنياك من صدقة جارية أو اعمال سيئة لم يزل أثرها في الدنيا قائماً.
ــ قل لي بالله عليك كم سأبقى أسيرا عندكم في هذا الوادي المرعب؟
نظر إلى الكتاب وتمعن فيه ثم قال:
ــ إننا مأمورون طبق هذا الكتاب بحبسك مدة إحدى وخمسين سنة وثمانية أيام و...
لم يكمل الملك حديثه بعد أن التفت نحوي لأنه رآني قد أغشي علي، ولولا تماسك الكرسي لسقطت منه.
أفقت بسوط من أحد الملائكة اللذين أحاطوا بي، حينها قلت له بصوت ضعيف متقطع ولهجة آيس معترض:
ــ بأي ذنب كل هذه المدة؟ إني تبت إلى الله توبة خالصة قبل خمس سنين، وسعيت جاهدا في طاعة الله ورعاية حقوق الناس و...
قاطعني الملك وقال:
ــ صحيح ما تقول، ولولا توبتك هذه لكان لابد لك من أللبث هنا آلاف السنين، بل وقد يمتد عذابك إلى يوم الحشر الأكبر، ولكن بسبب توبتك الخالصة سجلت لك هذه المدة القصيرة جدا.
ــ إحدى وخمسون سنة تقول عنها مدة قصيرة!
ــ نعم هي قصيرة جدا نسبة إلى فترات غيرك، ولولا علمي بدرجة إيمانك وتقواك ما أجبتك على أسئلتك، ولا أظهرت لك هذا الاحترام. وبسبب ذلك الأيمان ستكون درجة عذابك قليلة لو قارنتها بغيرك.
ــ وبماذا سوف تعذبونني؟
نظر مرة أخرى إلى الكتاب وقال:
ــ نحن مأمورون طبق هذا الكتاب بإدخالك في مئة وسبعة وثلاثين نوعا من العذاب، وها أنا ذا أشاهد فيه صفات سيئة لم تزل فيك وإن كانت بدرجة ضعيفة، من قبيل التكبر والعجب والرياء وصفات مختلفة أخرى.
توقف قليلا ثم استمر في حديثه فقال:
ــ كان عليك مراقبة نفسك في الدنيا ومحاسبتها قبل أن تحاسب الآن، كما أنك كنت تستهين بذنوبك الصغيرة ولم تتب منها، وكان يصيبك شي من العجب في طاعتك، ولديك أعمال حسنة أديتها لله لكن خالطها الرياء دون أن تشعر به.
توقف مرة أخرى وتمعن في الكتاب وقال:
ــ وأرى في أعمالك أيضا ظلمك لولدك خمسا وأربعين مرة، ولزوجتك سبعا وخمسين مرة، وإسرافا في نعم الله أربعا وتسعين مرة، وأكلك مال حرام خمسا وستين مرة و...
قاطعته معترضانا:
ــ عن أي مال حرام تقول؟ إني سعيت جاهداً على عدم اخذ دينار واحد حرام، فمن أين أتيت بذلك؟ إنني أرى الخطأ في كتابكم هذا.
أجابني بهدوء رغم جرأتي على اتهامهم بالخطأ في كتابهم فقال:
ــ انك كنت تعمل مهندسا، وتتقاضى راتبا شهريا مقابل ثمان ساعات عمل يوميا، ولديك خمس وستون حالة انشغلت فيها بأمور شخصية أثناء وقت عملك وبدون رخصة من صاحب العمل، وقد أثر ذلك على إنتاجية الشركة وان كان بشكل غير ملحوظ.
توقف قليلا ثم قال:
ــ لا أرى من الضروري ذكر تفاصيل أكثر، فلا بد من قضاء هذه المدة بأي حال كان.
ولكن لعله يصل إليك شي من أهل الدنيا يخفف عنك العذاب، وينقص من مدة مكوثك، أو لعل لديك من الأعمال الحسنة ما تسمح لك بنيل شفاعة الشافعين.
سلمت أمري إلى الله طوعا أو كرها، وقلت لهم: احملوني إلى حيث يشاء ربي...
ليتني عرفت قدري في الدنيا قبل أن يعرفونه لي الآن تحت أقدام أهل جهنم. ألقوا بي وأنا مكتف الأيدي والأرجل على أرض محمرة مسودة ملتهبة، كلما لامسها جزء من بدني دفعت به ليتكئ على جزء آخر، فأصبحت متقلبا ممدودا أتحول من مكان إلى آخر تحت أقدام سكان جهنم الذين كانوا يقفزون من شدة آلامهم، والنار مشتعلة فيهم، فكأنهم قطع من نار متحركة مضطربة، والملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم بسياط غليظة.
ما هو انواع العذاب الذي سيلاقيه سعيد.. هذا ما سنرويه لكم .؟
فانتظرونا مع الجزء العشرون ان شاءالله تعالى