قصة من عالم البرزخ
رحلة البقاء
الجزء الثامن عشر
ــ هل يمكن أن تخبرني من أنت وماذا تفعل هنا؟
قال:
ــ أنا خلاصة أعمالك الحسنة، قد كنت معك في الدنيا، وسأكون معك على طول مسيرتك في عالم البرزخ.
ــ لكني لم ارك قبل هذا الوقت!
ــ ان الإنسان لا يرى في الدنيا سوی ظاهر عمله، غافل عن باطنه وحقيقته الملكوتية التي هي مرافقة له لحظة الأداء ولا تظهر له إلا بعد کشف الغطاء عنه.
ــ وماذا بعد البرزخ؟
ــ وبعد البرزخ سيكون لي دور يتناسب مع عظمة الحساب والأهوال يوم ذاك.
ــ إذن قد فزت ونجوت.
ــ كلا، أن أمامك الكثير من الأهوال والمصائب وأنواع من العذاب سوف يصب عليك، وكله آثار أعمالك السيئة، وكل عذاب يصيبك في البرزخ سوف يطهرك اكثر واكثر حتى تنقى.
ــ وماذا سيكون دورك في كل ذلك، وأين رفقتك لي في تلك الأهوال والمصائب؟
ــ إن لي حدا محدودا في مرافقتك والسعي لنجاتك، إذ أن لديك ملكات فاسدة ومعاصي ارتكبتها ولم تتب منها ولا بد لك من أن تذوق عذابها، وفي ذلك كله سأكون بعيدا عنك حتى تطهر منها.
ــ وماذا عن العقرب الذي في قدمي، وكيف الخلاص منه؟
ــ إن هذا أمر متعلق بالشخص الذي يطلبك مالا ولم تؤده إليه، وسوف لا يزول عنك حتى تؤديه دينه أو يبرئك منه.
ــ وماذا بوسعك أن تساعدني في هذا الأمر؟
ــ سوف أبذل أقصى جهدي لمساعدتك ونجاتك منه إن شاء الله. والآن لابد من مفارقتك على أمل اللقاء مرة أخرى.
تركني وحيدا وذهب. انطفأت كل المصابيح، وذهب بريق جميع الأشياء، وساد الظلام، فلم أعد أرَ شيئا، ولا اسمع صوتا، وغمرتني وحشة شديدة، وتحيرت إلى أي جهة أقصد، وإلى أي طرف أخطو، هل أبقى في موضعي أم ماذا افعل، حقيقة لقد كان الحال مهولا والمستقبل مجهولا، ولعل هذا مقدمة للعذاب...
انجلى الليل وأقبل علي كائنان عملاقان أسودان كسواد القير، لا يرى منهما شي غير شرارات تخرج من عينيهما وحلقيهما، وشرارات أخرى تخرج من عصاتيهما الملتهبتين. دنيا مني حتى وصلاني وأنا في حالة خوف شديد، فمسكني أحدهما من رأسي والآخر من قدمي وحملا بي سريعا كالبرق إلى واد كبير عميق يصعد منه دخان اسود عظيم. لقد كان الوادي عظيما لدرجة أن له سورا ضخما لم أتمكن من تمييز حد لنهايته لا من أعلى ولا من يمين أو يسار. اقتربنا منه فانفتح لنا بابه الذي لو اجتمعت آلاف مؤلفة من البشر لفتحه ما تمكنوا منه. دخلنا وإذا بأصوات صراخ وعويل لنساء ورجال، وغمرت مشامي رائحة كريهة نتنة فقلت للمأمورین معي:
ــ ما هذا المكان الذي جلبتماني إليه، لعلكما اشتبهتما في شخصي.
ــ قال أحدهما:
ــ نحن ملائكة الغضب لا نشتبه في شخص قط، وفوقنا رقیب نأخذ منه الأمر، ورقيبنا عليه رقيب حتى يصل الأمر إلى الجليل الأعلى، ألم تقرأ في القران الكريم (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)؟
ــ أما الآخر فقال:
ــ وهذا وادي خصص لعذاب العاصين، ولا بد لك من قضاء أنواع العذاب فيه حتى تنقي من ذنوبك.
قال كلامه وضربني بعصاه على رأسي فأشتعل نارا، وصرخ صرخة عظيمة، وضربني الآخر على بطني فالتهبت هي الأخرى.
ذهبا عني وبقيت أتلوى وأحشائي تحترق حتى بدأت اسمع صوت توغل النار فيها.
بأي حال سيئة كنت، وأي آلام تحملت، بل أي صراخ صرخت، ناديت وما من مجيب، واستغثت وما من مغيث. لقد كان إحساسي بحرارة النار إحساس من حضر فيها فهو داخلها لا من اخبروه عنها فهو يتخيلها، وشتان بين الاثنين.
بقيت بهذه الحالة ساعات شغلني ألمي فيها عما حولي، فلما هدأت النار وعاد جلدي كما كان نظرت يمينا وشمالا فرأيت واديا ليس له حدود قد انتشر فيه آلاف من ملائكة الغضب بأشكال مختلفة مرعبة يحملون سياطا مختلفة، منها الغليظ ومنها النحيف، وبعضها من نار، وبعضها من مواد أخرى أجهلها، وهناك مجاميع أخرى تحمل مقامع من حديد محمر.
قيم علي ملكان ظهرا فجأة فلا اعلم من أي جانب أتيا. اقتربا مني وحملاني إلى غرفة مليئة بصفوف الملائكة الذين اصطفوا بشكل مرتب ومنتظم، وهم ينظرون إلى ملك عظيم الخلقة قد تصدرهم وتقدم عليهم، ويبدو انه زعيمهم. ألقياني أمامه وتحدثا معه بحديث لم افهمه وخرجا فبقيت انظر إليه كالذليل بين يدیه، ارتجف خوفا منه.
أومأ إلى ملكين آخرين فأتيا سريعا وحملاني إلى غرفة أخرى، إذ جاءنا فيها ملك يحمل لوحا علقه في عنقي وقال:
ــ إن هذا اللوح يحوي أعمالك السيئة صغيرها وكبيرها سوى ماتبت منه، مع توضيح جزاء كل منها من العذاب ونوعه ودرجته ومدته، كما يحوي صفاتك وملكاتك السيئة التي لم تزل باقية بسبب عدم اقتلاعها من جذورها في الدنيا.
أجبته قائلا:
ــ وهل يمكن لي معرفتها؟
ــ نعم يمكن لك ذلك.
ماذا هي ذنوب سعيد وما العذاب الذي سيتعذبه بسبب ذنوبه.. هذا ما سنرويه لكم ..؟
فانتظرونا مع الجزء التاسع عشر ان شاء الله