منصور شاب متعلم، درس القانون في العاصمة، واستطاع من خلال دراسته الوصول إلى مقعد هام داخل الحزب الحاكم، لكنه ظل دوماً يفكر في القرية التي نشأ وترعرع فيها، ولازال يذكر عمدتها المستبد الظالم، وذات يوم قرر العودة إلى قريته، فلها في رقبته دينُ لابد أن ينقضي، حتى كان يوم العودة، فإذا به يجد الظلم والإستبداد قد إستفحل في القرية، ويجد عمدتها نصب من نفسه نبياً ملهم من السماء، فيقرر حث الناس على رفض الظلم، ويعمل الشاب على نشر الوعي بين أهالي القرية وتبصيرهم بحقوقهم المتغافل عنها، ويستطيع جذب الناس إليه، وكيف لا وهو يواجه العمدة الذي لا يقدر عليه أحد من سكان القرية، ويأتي حملة المباخر للعمدة، ويقولون له لقد سئمنا الحياة، وكيف نرضى بها، ونحن نرى منصور رافعاً سيفه عليك يطعنك به في اليوم ألف مرة، فيرد العمده : إنه حقاً يطعنني لكني لا زلت حياً، فأما الجراح سيأتي عليها وقت وتندمل، وأما عن المهابة فسوف تعود عندما يخرج غضبي، فيقول له أتباعه إذاً إغضب، فيرد العمدة : وماذا لو غضبت واستغل منصور علاقاته بالخارج، إنه والله ليقدر على إزاحتي بهاتف يجريه، لكنه فضل إزاحتي بإزالة الخوف من قلب العبيد سكان القرية، فيسأله رجاله وما العمل ؟
فيرد العمدة : عليكم بالإندساس بين أتباعه، ثم وجهوا له اللوم لإستقوائه بالخارج على عمدة يستمد قوته من أهله وذويه، واشترطوا عليه ترك منصبه في الحزب الحاكم حتى تتبعوه، بل وزيدوا في طلباتكم حتى يقطع علاقاته بالخارج، وينفذ رجال العمدة المندسين الأمر، وبعد فترة يقتنع منصور بما طرحوه عليه، ويترك منصبه بالحزب الحاكم، كما يقطع كل علاقاته بالخارج، واستطاع منصور جمع العديد من سكان القرية تحت لوائه، حتى أصبحت الأغلبية معه، وصار قادراً على إشعال فتيل الثورة بالقرية، ومع كل يوم يمر تزداد قوة منصور وتقل قوة العمدة، لكن الغريب في الأمر أن العمدة لم يكن يأبه بقوة منصور حتى وإن عظمت، وكلما إشتد الخوف في قلب أتباعه رد عليهم قائلاً : لا زلنا نحن السلطة، ونحن أهل القانون والقائمون على تنفيذه، فلا تخشون شيئاً، وفي موعد معلوم سآمركم بإعتقال منصور، فوالله إن دماء شخص واحد معارض لأهون من دماء مجموعة معارضة، لكن لكل أجل كتاب ولم يحن أجل منصور بعد.
وبعد أن قطع منصور كل حبال التواصل بينه وبين كل ما هو خارج القرية، وفي اليوم المعلوم قبل مطلع الفجر يأمر العمدة رجاله بإعتقال منصور، ورميه بزنزانة المعارضين، والتي لا يعلم أحدُ لها طريقاً، ويعود رجال العمدة يسألونه : لماذا قررت إعتقال منصور الآن، فيجيبهم : ما خشيت يوماً قوة منصور بالداخل لكني والله خشيت من قوته بالخارج، فلِكُل سلاحُ يخشاه، والمعركة تتطلب الفطنة والكياسة، وفي المواجهة علينا أن نحارب خصومنا بالسلاح الذي يخشونه لا بالسلاح الذي نخشاه، حتى وإن واجهونا بسلاح لا نخشاه، فأما عن قريتنا فهم أهلنا لنا فيهم قرابة وعزوة، حتى وإن ميزنا أنفسنا عنهم إلا أننا شركاء في الفرح والهم العام، وما أن نقضي على منصور، سيعودون إلى أحضاننا ويرضون بحكمنا.
ويدخل منصور الزنزانة المليئة بالمعارضين يسأل نفسه : كيف إستخف العمدة بقوتي وعزوتي، ألم يعلم أن القرية ستثور بعد إعتقالي، لقد فتح الظالمون على أنفسهم أبواب نار لن تنغلق، وبعد محبسي سيخرج بركان الغضب على المستبدين، لكن الأيام تمر ولم يسأل أهل القرية في منصور، بل رضوا بالأمر الواقع، وسلموا عقولهم وأفئدتهم للعمدة.
فيقرر منصور مشاركة كل من في الزنزانة للبحث عن مخرج لهم جميعاً من القبو الذي سجنوا فيه، ويجتمع كل المساجين منتظرين سماع مسألة منصور الذي قال :
والله لن أطيل عليكم، فلستم بحاجة إلى موعظة أو توعية، فقد سبقتموني في كليهما، وإلا ما كنتم هنا، لذا لن اسألكم إلا في الهم المشترك بيننا، إننا هنا أحياءُ أموات، لا نعلم عن خارج الزنزانة شيئاً، وما علينا أن نرضى بالموت ونحن أهل العقل والسياسة، أريد من كل منكم أن يقترح علينا مفتاح لهذه الزنزانة ؟
فيجيبه كل نزلاء الزنزانة في وقت وصوت واحد :
مفتاح الزنزانة بالخارج.