.
أمى تنخل الدقيق من غربال هش يشبه ثقوب الذاكرة ، وهى دائما تضحك وتقول لى أن وجهى أكثر بياضا من دقيقها الناعم ، كنت طفلا ..أبعثر الدقيق وأنشره فى الهواء كرسائل أكتبها إلى شيخوختى التى ستأتى حين تنتهى أمى من خبز كل هذا الوقت ..
وأنا آكل أخر قضمة من رغيف
تركته أمى على طرف الفرن
قبل أن ينضج .
*****
البيوت كانت من طين ، هكذا كنا نشعر بالدفء حين نخبئ لحومنا الباردة فى غضاريف الجدران من البرد ،
فى الشتاء ،
تتحول الشوارع إلى صلصال هائل من الروح ،
والجيران هنا يعيدون خلق الله فى كل صلاة يزرعون بها جدب الأرض ( كان الله طيبا وكان يرسل رياحا تسوق غيمة إلى دارنا الصغيرة التى تتوسط حقلا من القمح وعلى أطرافه تحرس أشجار التوت ضفاف الترعة التى جفت الآن ..)
كنت طفلا أخبئ الكثير من البكاء ،
ولذا أفرح كلما نزل مطر من عباءة رمادية ترتديها جدتى العجوز ، التى ترقد بآلامها القصوى بين السماء والأرض على فراش من الصوف ،
كانت عجوزا بما يكفى
كى أرى قافلة من الحزن تلتهم صحراء من العظم
وأنا أرتدى لحمى الغض كخارطة من الوقت ،
أصل الى التيه
كى أتحسس ملامحى المتغضنة
وأنا أدفن ما تبقى من أصابع جدتى
وهى تترك مسبحة القلب
تنفرط على سجادة من النسيان !
*****
كنا عائلة ..الأطفال فى عالمى كانوا يوزعون القارات بعدالة على رغيف مسطح من الفقراء ، نلعب كأن الملائكة تقدم لها أجنحتها كهدايا ، نحفظ أسماء الشوارع لأنها كانت تنادينا حين نتوه بعيدا عن البيت ، الأرض ثمرة مجانية ..
هكذا نقذف بالحجر نخلة البلح العتيقة
ونحن نخزن فى جيوبنا الصغيرة فائضا من السكر
يكفينا لشتاء سوف يأتى
ونحن نبحث عن عظمة طرية فى القلب
تبقت من طفل
كان يجلس وحيدا على عتبة
وينظر لأطفال يلعبون
فيما ملائكة تمهد لحرب ما ،
فى الضفة الأخرى من العالم !
*****
ماذا يغرينا فى قهوة الحكاية كل صباح ، ونحن نجمع فتات الوقت ، ستكون الحكاية دائما غير مكتملة التفاصيل ، يكمن الفرح الحقيقى فى تلك التفاصيل الغامضة التى نحاول تذكرها ،
ونحن نفشل ..نمنح للاوعى مهمة أن يرمم هذا الشرخ بالحلم ،
الحلم ممر ضيق يشبه سلاميات الأصابع وهى تقبض على مزمار الوقت ،
تهرب الموسيقى كرائحة القهوة التى تتلاشى فى عتمة الجسد البارد
الجدران شاحبة وصفراء كشجرة سرو لم يجلس عليها مهاجر ،
الجدران تشرب كل الأصوات التى تخرج لاهثة من ضباب الحنجرة ،
وهى تحاول الصراخ ..
الصراخ الذى يتحول لبخار فى سماء الغرفة المغلقة ،
التى تحبس جسدا مات للتو
وهو يحاول الهرب
من مرارة قديمة !
*****
العالم يهرب من بين أصابعنا كغبار دقيق كانت تنخله أمى منذ قليل / هكذا أروى ..
فيما تتهدم الأمكنة القديمة ، رائحة الشوارع ، رمال الوقت ، الميادين ، أفران الخبز ، الدكاكين ذات الأبواب الخشبية ، ملح الأرض ، طعم المدن الغريب ونحن نذوب فى الأسفلت الساخن كظلال..
تهرب منا الحكاية كما يهرب سرب نمل إلى شرخ عميق فى العظم المكسور ،
أصير عجوزا ..أم أن الوقت هو الذى يتعفن كخبز قديم فى جوع الجسد ؟!
هل تشعر عظام العالم بالهشاشة حين تتهدم مدن بكاملها ..
هل تحن الملائكة إلى الأساطير العتيقة فى أحجار التاريخ / الأساطير التى تتحول إلى أفلام سينمائية لتحاكى طفولة ما / الطفولة التى تتكدس فى ساحاتها الجثث كلما استعرت حرب ما / العالم طفل يحمل ذاكرة عجوز أعمى ..
أنا الكف التى ينغرز فيها الوقت كعروق تنزف الروح ،
أقرأ مصيرى /
أنا دم متجلط ..
فى جرح جندى ما
لم يخسر شيئا سوى رؤية مدينة من الحكايات تتهاوى
لم يربح سوى بندقية
لم تطلق رصاصة
على طفل كان يجمع التوت،من شجرة تقف كشاهد أخير
على حافة الحرب !
*****
أنظر لتلك البيوت الأخرى من نافذة ،
النافذة خشب طرى يشبه امرأة من الكافور ،
النافذة رؤيا تقع كحلم بين الله وصوفى
النافذة قسمة عادلة من ميراث أرابيسك
أرى ..
وأنا أتوه فى تلك المسافة
بين اللغة والحقيقة !
منقوول