تعبيرية
في إطار المفهوم البشري الواسع للحب، وما إذا كان حسّياً أو روحياً، ملموساً أو متخيلاً، يظل الاتفاق على أنه شعور إنساني، توحّدت عليه الناس، وصار دافعاً أساسيا للتقارب بين الأفراد، وتسبب بسعادة البعض عند الظفر بشريك العمر أو نيل حبّه، وآلام لآخرين لم يقيّض لهم القرب من الآخر، لكنه يظل سلوكاً ملازماً للطبيعة البشرية، باعتباره جزءا جوهريا منها، سواء أبكى أم أضحك، أو حتى دفع البعض للتأليف فيه.
وعرف التصنيف العربي، كتباً كثيرة أو فصولا في الحب وأحوال العشق والعشاق، فضلا من شعر الحب العربي ذاته، وهو يزيّن ديوان العرب، إلى جانب الفخر والحماسة والرثاء والمديح. إلا أن كتاب (طوق الحمامة في الألفَة والأُلاّف) لابن حزم علي بن أحمد بن سعيد الذي توفي سنة 456هـ جمع ليس فقط أخبار العشق والعشاق على طريقة المصنفين الآخرين، بل أدخل علمه الواسع في تلك الظاهرة، وهو المؤلف الرصين الورع، بحسب ما يصفه محققوه ومترجموه.
الحب أوله هزل وآخره جد
لم يكتف ابن حزم، بالتحدث عن أحوال المحبين، وهي لا تحصى في المصنفات العربية، شعراً وتراجم وقصصاً، بل قدّم رؤيته التي لا يعرف إن كانت ناتجة من تجربة شخصية أم لا، إلا أنها في الحالتين، جعلت كتابه متميزاً في بابه مع ترجيح أن الرجل كتب مصنفه عن تجربة شخصية، خاصة وأنه يفتتح كتابه بما يشير إلى الوقوع في التجربة: "الحُبُّ-أعزّك الله- أوله هزل، وآخره جِد. دقّت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة!".
ومن خلال "المعاناة" التي اشترطها ابن حزم، مقدمة لإدراك معاني الحُب، فإنه يضع جملة من الإشارات تؤكد وقوع المرء في الحب، رجلا كان أو امرأة. ويرى أن أول علامة من علامات الوقوع في الحب، هي "إدمان النَّظر"، إلى الشريك، أو المحبوب.
عاشق كالحرباء في الشمس!
وإدمان النظر، أي إطالته وتكراره تحديقاً ومعاينة، يتم عبر العين بصفتها "باب النفس" وبصفتها "المنقّبة" عن خفاياها، يقول ابن حزم واصفا العين بأنها المعربة عن باطن الروح. فتذهب عين العاشق، حيث يذهب المعشوق، ولا ينشغل عنه لحظة: "فترى الناظر، لا يطرف، يتنقّل بتنقل المحبوب، وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال، كالحرباء في الشمس!".
إذا كان إدمان النظر إلى الطرف الآخر، علامة من علامات الوقوع في حبّه، بحسب ابن حزم، فإن العلامة الثانية، بعد تفحّص ملامحه، هي الإقبال بالحديث إليه. ويرى أن الإقبال بالحديث إلى المحبوب، أمر غير اختياري، أي أن المعجب يضطر بالتوجه بحديثه لمن يحب: "فما يكاد يقبل على سوى محبوبه، ولو تعمّد ذلك، وإن التكلف ليستبين لمن يرمقه فيه، والإنصات لحديثه إذا حدّث، واستغراب كل ما يأتي به، وكأنه عين المُحال!" وإنه لشدة تعلّقه به، يصدّقه "وإن كذب" في كلامه، ويوافقه "وإن ظلم!".
الإسراع من أجل اللقاء
إدمان النظر، كعلامة من علامات الوقوع بالحب، وكذلك الإقبال بالحديث إلى المحبوب، يفترضان مكاناً مشتركاً للطرفين، إذ لا يمكن النظر إلى غائب أو محادثته. فإن كان المحبوب غير موجود، فتكون علامة الحب الثالثة هي: الإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه، ثم "تعمّد" الاقتراب والقعود بالقرب منه، يقول ابن حزم، وبعد تعمد الاقتراب من الشريك المحبوب، يتعمد التباطؤ بالابتعاد عنه، ذلك أنه تعلق به وسارع للقائه، حبا، فلذلك فهو "يستهين بكل خطب جليل داع إلى مفارقته" فيسعى للبقاء قريبا منه، بأي سبيل ممكن.
لا تزال العلامات السابقة، تتطلب نوعاً من "التلبّس" وإظهار المشاعر الدفينة أكثر، ويكون ذلك في العلامة الرابعة من علامات الوقوع بالحب، وهي عندما يصاب الشخص بـ"البَهت" وتقع عليه "روعة" عند رؤية من يحب، فجأة بعدما طلع أمامه، بغتة. إذ ذاك، يكون الوقوع في الحب، قد اكتمل على وجه التقريب، إلا أن علامة أخرى إضافية، تقطع الشك باليقين، لإزالة تشابه المشاعر، تؤكد الحب لا عاطفة أخرى، وهي الاضطراب.
بسبب الحب: البخيل كريماً والجبان شجاعاً!
يقول ابن حزم، إن الاضطراب الذي يصاب به المرء، عند سماع اسم المحبوب، من علامات الحب، إلا أنه يحدد لذلك الاضطراب أن يحدث حتى لو رأى المحب، ما يشبه محبوبه، وليس محبوبه نفسه. أي وقوع الاضطراب لمجرد رؤية الشبيه، فكيف لو وقعت العين على الأصيل؟
ويضيف المؤلف، أن اجتماع تلك العلامات الخمس يؤكد الوقوع في الحب، إلا أن ثمة ما يلزم للتعبير عن ذلك الحب، وهو العلامة السادسة، وهو عندما يجود المرء بكل ما يقدر ليبدي محاسنه أمام من يحب، ليرغّبه في نفسه. وعلى هذا، يقول ابن حزم، كم رأى بخيلاً، صار بسبب الحب، كريماً، وكم من جبان صار شجاعاً، وكم من غليظ طبع، تطرب ولانَ وترقّق، وكم من جاهل تأدّب، وكم من فقير تجمَّل وتزيّن. كل هذا بسبب الوقوع في الحب، وهو العلامة القصوى التي لا يحتاج بعدها، إلى أي دليل على الهوى.