حكي أن رجلا من الصالحين كان يرى في السوق وهويردد كلمة والعافية ، ظن الناس أن الرجل ممسوس وكانوا يكتفون بالإشفاق عليه، والتمني لأنفسهم الستر وحسن العافية. تجرأ واحد مرة وسأله: يا عم، لماذا تكرر كلمة العافية كثيرا؟ انشد الرجل الصالح السائله، وأطلق نفسا عميقا وكأنه كان ينتظر مثل ذلك السؤال، ثم اعتدل وأخذ يسرد على مسمع سائله حكايته التي انتهت بتمجيد العافية
كنت في شبابي حمالا قوي الظهر، أحمد الله أن أعطاني صحة تقيني ذل السؤال (التسول)، ولكنني كلفت يوما نقل کیس دقيق ثقيل مسافة طويلة، لم أستطع أن أوصله دون توقف في الطريق، وللحق شعرت هذه المرة بتعب ما تعودته، ولهذا أسندت الكيس إلى دكة على جانب الطريق لأستريح، وقلت مني هذه العبارة، رباه لقد كاد ظهري أن ينقصم، أما أستحق أن تيسر لي هذين الرغيفين من دون هذا التعب؟ قلت هذه العبارة ثم أكملت طريقي .
ولم أقطع أكثر من عشر خطوات حتى وقع بصري على مشهد خصام بين رجلين، يريد كل منهما أن يحطم الأخر فهالني الأمر، فحططت حملي على جانب الطريق، ورأيت أن أقف بين الرجلين لأمنع الواحد منهما عن الأخر وقال السائل، هذا عمل خيرا وما في ذلك؟ استأنف الرجل الصالح، لم تنته الحكاية يا بني.. لقد وقعت بين قبضتي الرجلين ويعلم الله أن الضربات التي نالتني أكثر من مجموع ما قالهما معا، دمي أنفي، وشج رأسي وتهرأ إزاري، ولما حضرت الشرطة قادتنا نحن الثلاثة إلى السجن، وظن القاضي أننا في الخصومة سواء، وما زاد كآبتي أن المتخاصمين خرجا، وقد توسط لكل منهما وجيه معروف من القاضي.
ومضت الأيام علي في السجن يشبه واحدها الأخر، كنت أعطى كل يوم رغيفين لأتقوى بهما على الحياة، لقد ازددت كآبة وأحسست بالغم يحتل نفسي، وذات ليلة جاءني في الرؤيا صوت يقول: ما الذي يكدرك أيها الرجل الطيب؟ عجباه أسمع عبارة الرجل الطيب، فلماذا أنا هنا إذن؟ ثم يتابع الصوت، أنا أعجب من كآبتك، وأنت تؤتي سؤلك، وتتحقق رغبتك، أما كنت ترغب إلى ربك أن ينيلك رغيفين بلا تعب؟ ها انت بلا عمل ويأتيك رغيفاك كل يوم .. وصحوت : ماذا ارد ؟ لقد كان ما قاله الصوت صحيحاً، وكتمت الأمر في نفسي وصبرت علي محنتي وحمدت الله في سري .
وفي اليوم الثالث جاء رجل صاحب الشرطة ولم أكن قد رأيته من قبل وبعد لحظات أخرجني الشرطي من السجن ومن يومها وانا اردد هذه الكلمة : العافية .. العافية .. ألست محقاً ؟