قصة من عالم البرزخ
رحلة البقاء
الجزء السادس عشر
كنت سعيدا جدا لتمكني من الإجابة، وكان بودي الاسترسال بالحديث اکثر لولا أني شعرت بتجاوزه حدود السؤال، لذلك توقفت عن الكلام وانتظر أن يبادراني بالسؤال مرة أخرى.
قال منكر وقد بدت عليه ملامح التبسم الممزوج بالوقار والهيبة:
ــ إن أجوبتك كانت مصداقا للاية الكريمة ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ ) وهي إنما كانت حصيلة جهودك في البحث عن الحقيقة وتحصيل العقائد الحقة خلال سني عمرك الأخيرة، كما إن تلقين صديقك مؤمن حين نزول بدنك في القبر كان له الأثر في ذلك، إضافة إلى مساعدة بعض الأعمال والأذكار التي أديتها في الدنيا، من قبيل صيام أيام شهر شعبان، وإحياء ليلة الثالث والعشرين من رمضان وصلاة مائة ركعة(1).
انتهى كلامه فسألته قائلا:
ــ يبدو أن لديكما العلم والاطلاع بدرجة الأيمان في قلبي، وصدقه من كذبه، وما هي العقائد القوية والضعيفة لدي، إذن فما وجه تساؤلاتكما هذه؟
أجاب قائلا:
ــ إن أسئلتنا كانت لغرض إظهار مستوی عقائدك إليك لتطلع عليها، حينها سوف لا تعترض على أي أثر نرتبه طبقا لذلك، وهدف آخر منها هو أن هذه الأسئلة والأجوبة تكون سرورا للمؤمن إن أجاب عنها، وعذابا للكافر إن تعثر فيها، كالطالب الذي يفرح عندما يجيب عن أسئلة معلمه، وبعكسه الكسول الذي يخجل ويحزن لتعثره فيها، وما ذلك إلا ضرب من ضروب الثواب والجزاء.
لم يترك الملك مجالا لسؤال آخر فبادر قائلا:
ــ إن روحك سوف تترك بدنك الدنيوي المادي بصورة كاملة، وتستقر في قالب مثالي لطيف يشابه من حيث الصورة والشكل قالبك الأول(2).
قال ذلك واختفى مع صاحبه فجأة، فالتفت يمينا ويسارا ابحث عنهما ولكن لا أثر لهما قط.
وكما قال الملك واخبر، فقد أحسست بعد اختفائه بتفكك كل القيود التي كانت تربطني ببدني المادي، وكأن حبالا كانت تجرني نحوه قد تقطعت، وقيودا قد تمزقت، فأصبحت خفيفا لطيفا، ولم أشعر بالتحاقي بالقالب المثالي إلا بعد استقراري فيه لخفته ولطافته.
زالت همومي وآلامي بنجاتي من أسئلة منكر ونكير إلا هم العقرب وألمه، فهو لا يرتضي المفارقة ولا يقبل المساومة، لذا عاد أنيني وصراخي منه، وبينما أنا كذلك لاحظت اتساعا في القبر وانفتاح باب منه نحو حديقة واسعة كبيرة، حينها قال لي أحد الكائنات النورانية وهو يجرني نحوه:
ــ لنخرج إلى الحديقة التي فتح القبر بابه إليها.
تحركنا جميعا واتجهنا نحو الباب، فخرجنا منه وجلسنا وسط خضرة واسعة، كانت سعته بمد البصر، وجماله ملفت للنظر، قد وزعت فيه الورود بشكل منسق ومنتظم، كما أن ألوانها تتغير بين الحين والآخر لتعطي جمالا باهرا ورائحة خلابة.
كانت الكائنات النورانية على شكل ست صور، بينهن صورة أحسنهن وجها، وأبهاهن هيأة، وأطيبهن ريحا، قد استقرت فوق رأسي، أما الأخريات فكانت واحدة عن يميني، والثانية عن يساري، والثالثة بين يدي، والرابعة خلفي، والخامسة عند رجلي، فقالت أحسنهن صورة:
ــ من انتم جزاكم الله خيرا؟
ــ قالت التي على يميني: أنا الصلاة.
وقالت التي على يساري: أنا الزكاة.
وقالت التي بين يدي: أنا الصيام.
وقالت التي خلفي: أنا الحج والعمرة.
وقالت التي عند رجلي : أنا البر والإحسان.
ثم قالت الصور الخمس جميعا وبصوت واحد: ومن أنت، فأنت أحسننا وجها، وأطيبنا ريحا، وأبهانا هيأة؟
قالت: أنا الولاية لآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين(3).
كنت أشاهد واسمع ما يجري من حديث بين هذه الكائنات النورانية فسألتهن مستغربا:
ــ ألم تتعارفن قبل هذا الوقت؟
قالت الولاية: كلا لم تترك أحداث القبر مجالا لذلك.
حقا كان اجتماع أنس مع هذه الكائنات، لكنه انقضى سريعاً لحلاوته إذ استأذنوا بمغادرة المكان بعد سويعات من جلوسنا، فأجبتهم مستغربا:
ــ أحقا ما تقولون؟! وهل سأبقى وحيدا غريبا هنا؟.
ماذا سيحل بسعيد بعدما تتركه الكائنات النورانية.. هذا ما سنرويه لكم ..؟
فانتظرونا مع الجزء السابع عشر ان شاءالله تعالى