يُعدُّ المنشد والقارئ المصري الشيخ علي محمود، مؤسس فن الإنشاد الديني في الربع الأول من القرن العشرين، ليس في مصر وحسب وإنما على امتداد العالم الإسلامي كله، وعندما يُكتب تاريخ هذا الفن سوف يأتي اسمه في المقدمة باعتباره واضع أسس هذا الفن وشيخ طريقته بعد أن أرسى قواعده وحلّق به إلى عنان السماء.

ولا يزال الشيخ علي محمود يتربع على قمة الإنشاد الديني حتى اليوم، حيث لم يظهر بعد من المنشدين من يحتل مكانه أو يرتفع إلى قامته؛ خاصة لإسهاماته في تطوير وابتكار الأساليب والأنغام والجوابات..

بل إنَّ هذا الفن العظيم بدأ في التلاشي بعد رحيل المنشدين العظماء الذين خرجوا من تحت عباءة الشيخ علي محمود بداية من تلميذه النابه الشيخ طه الفشني ومرورًا بالشيخين محمد الفيومي وعبد السميع بيومي ونهاية بالشيخ سيد النقشبندي.

عاش الشيخ علي محمود 65 عامًا منذ ميلاده بدرب الحجازي الكائن بقسم الجمالية بالقاهرة عام 1878م، وحتى رحيله عام 1943م.



من النشأة إلى منبر الحسين
وقد نشأ في أسرة ثرية، وقد ولد مبصرًا قبل أن يفقد بصره في حادث أليم، قد انصرف إلى حفظ القرآن الكريم وتجويده في الأزهر الشريف، وشغف الشيخ علي محمود بفن عبده الحامولي وسار في ركابه قبل أن يتلقى علم النغمات ومعرفة المقامات، ثم تفرغ بعدها لحفظ مئات الموشحات.

وقد آنس الفتى علي محمود في نفسه ميلًا لقراءة القرآن، ولما كان صوته جميلًا وإلمامه بقواعد التجويد عظيمًا، فقد أُقر قارئًا تحت الثريَّا الكبرى بمسجد الإمام الحسين، ولينطلق صوته بكلِّ العذوبة والقوَّة بآيات القرآن الكريم في أرجاء المسجد الحسيني، فذاع صيته وتوهجت شهرته وتحلَّق حوله رواد المسجد في زمن شهد فُحُول القرَّاء من أمثال الشيوخ حسين الصواف، وأحمد ندا، وحنفي برعي، وحسن المناخلي، ومحمد القهاوي، ومنصور بدَّار.


المقرئ البارع والمنشد اللامع
وقد بلغ من عبقريته أنه كان يؤذن للجمعة في الحسين كلَّ أسبوعٍ أذانًا على مقام موسيقي لا يُكرِّره إلَّا بعد سنة.

وعن ذلك تحدث الدكتور محمد صلاح الدين بك: وزير الخارجية في وزارة مصطفى النحاس باشا (1950- 1952م)، فقال: «وهوى الشيخ على فيما هواه من ألوان الموسيقى "الأذان"، وكان الأذان -وما يتبعه من التسابيح والاستغاثات- يُتلى قبيل الفجر في الحرم الحسيني على نهج خاص:
فنغمة يوم السبت عشاق، ويوم الأحد حجاز، أما يوم الاثنين فنغمته سيكا إذا كان أول اثنين في الشهر، وبياتي إذا كان ثاني اثنين، وحجاز إذا كان ثالث اثنين في الشهر، وشورى على جركاه إذا كان رابع أو خامس أيام الاثنين، وكانت نغمة يوم الثلاثاء سيكا، والأربعاء جركاه، والخميس راست، والجمعة بياتي».

فإنَّ ما تجمَّع لدى الشيخ من حصيلة موسيقية جرَّاء سعيه الدؤب خلف مصادرها الأصلية، جعل من تلاوته وإنشاده شيئًا لا يتكرر في دولة التلاوة الحديثة.



أثره البالغ وفضله الدامغ
وكان للشيخ تلامذة نوابغ تأثروا به وتعلموا منه وكان أغلبهم من بطانته الذين لازموه لعلمه ومنزلته حتى أصبحوا من نبغاء ومشاهير القرَّاء، وكان على رأسهم العملاق "الشيخ محمد رفعت" رحمه الله، والشيخ طه الفاشني، والشيخ كامل يوسف البهتيمي، والشيخ محمد الفيومي، والشيخ عبد السميع بيومي..

لم يقف تأثير الشيخ على محمود عند حدود مدرسة الإنشاد الديني والقرَّاء، وإنَّما امتدَّ ذلك التأثير إلى مدرسة الغناء العربي؛ حيث أُثِر عن ملحنين كبار مثل محمد عبد الوهاب التأثُّر بألحانه في بعض أعمالهم، وكذلك الملحن الأشهر زكريا أحمد، وأم كلثوم، وأسمهان.


رحيل إمام المنشدين
رحل الشيخ علي محمود إلى جوار ربه في ديسمبر عام 1943م تاركًا عددًا غير كثير -لضياع بعضها- من التسجيلات التي تعد تحفًا فنِّيَّةً رائعة.



المراجع:
- شكري القاضي: عباقرة التلاوة في القرن العشرين، مطابع دار الجمهورية للصحافة.
- د. خيري محمد عامر: مشايخ في محراب الفن.
- محمد فهمى عبداللطيف: الفن الإلهي.
- د. محمد صلاح الدين بك: الشيخ على محمود .. فقيد الفن والموسيقى، مجلة الراديو المصري، العدد 255، 3- 2- 1940م، والعدد 466، 19- 2- 1944م، والعدد 467، 26- 2- 1944م.
- عصمت النمر: مقال " الشيخ علي محمود .. سيد القراء وإمام المنشدين"، موقع راديو التراث.
قصة الإسلام