في عام 2002م وضع الأميركي إدوين لوك والكندي جاري لاثام، وهما من كبار علماء النفس، نظريةً تتناول كيفيَّة وضع الأهداف، وفيها توصَّلا إلى أنَّ وضوح الأهداف يُوجِّه الإنسان إلى الأعمال التي لها علاقة بهدفه، ويمنعه من تضييع عمره فيما لا يُفيد، وأنَّ الأهداف الصعبة تُؤدِّي إلى استخراج الطاقات الكامنة في كلِّ فرد، وأنَّ الأهداف الواضحة تُؤدِّي إلى المثابرة، وترفع من قدرة الإنسان على بذل جهودٍ غير عاديَّة، وتلفت نظره إلى إمكاناتٍ متاحةٍ لا يراها في العادة، وتدفعه إلى استخدام معارف وسياسات لها علاقة بالهدف، كل هذا بشرط أن يُخلص الإنسان في تحقيق هدفه، وأن يُكرِّس حياته له، وأن تكون لديه القدرة والمعرفة التي تُمكِّنه من تحقيق الهدف، فضلًا عن دوام المتابعة لخطوات تحقيقه[1].
إنَّ ما وصل إليه العالمان الكبيران في عام 2002م هو عين ما كان يفعله السلطان محمد الفاتح رحمه الله في القرن الخامس عشر من الميلاد، فمن أعظم صفات السلطان محمد الفاتح أنه كان واضح الهدف في كل تحركاته، وهذا ما حقَّق له النجاح والفضل، ولم يكن هذا الجهد الخارق الذي بذله الفاتح، ولا الطاقات الكبيرة التي أبرزها، ولا الإمكانات الرائعة التي اكتشفها في معاونيه، وجيشه، وشعبه، إلَّا لوضوح الهدف في عينه، وليس هذا فقط، ولكن كذلك لأهمية وعِظَم الهدف الذي كان من أجله يعمل..
فبعض الناس لا يُدرك على وجه الحقيقة ما يُريده في حياته، وبالتالي فإنَّ أعماله تأتي متناقضة، وقد يهدم اليوم ما بناه بالأمس، والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾ [النحل: 92]، وما ذلك إلَّا لغياب الهدف.
كان فتح القسطنطينية أحد الأهداف الكبرى التي وضعها محمد الفاتح نصب عينيه يوم تولَّى عرش الدولة العثمانيَّة، بل لعلَّه كان هدفه قبل أن يجلس على العرش.
وفتح القسطنطينية هدفٌ صعب.. لا شَكَّ في ذلك.. ولكنَّه ليس بالهدف المستحيل.. نعم لم ينجح المسلمون في تحقيق هذا الهدف على مدار ثمانية قرون كاملة، لكن من الناحية النظريَّة يُمكن لهذا الهدف أن يتحقَّق، ولكنَّه يحتاج إلى جهودٍ متضافرةٍ ينبغي أن تتكاتف معًا لتحقيق الإنجاز.. هناك حاجةٌ إلى أفرادٍ عسكريِّين بإمكاناتٍ معيَّنة، وهناك حاجةٌ إلى سلاحٍ بمواصفاتٍ خاصَّة، وهناك حاجةٌ إلى طرقٍ يُمكن أن تستوعب المدافع الضخمة والجيوش الكبيرة، وهناك حاجةٌ إلى مخابراتٍ قويَّةٍ تنقل الأخبار أوَّلًا بأوَّل، وهناك حاجةٌ لعلاقاتٍ دبلوماسيَّةٍ قويَّةٍ مع أطرافٍ كثيرةٍ في العالم، وهناك قبل ذلك وبعده حاجةٌ لإعدادٍ معنويٍّ وروحيٍّ ودينيٍّ لهذه المجموعة التي ستقوم بهذا العمل الكبير، وفوق كلِّ ذلك هناك حاجةٌ لإعداد الشعب كلِّه لتحمُّل هذه الأعباء الكثيرة التي سيتحقَّق بها الهدف! إنَّه تكريسٌ كاملٌ لجهود الدولة والأفراد لتحقيق الهدف الكبير، ولم يكن كلُّ هذا ليتحقَّق لولا حسن التركيز على الهدف الواضح.
هكذا تحقَّق الهدف وفتحت القسطنطينية!
ولم تكن هذه هي نهاية المطاف في حياة محمد الفاتح رحمه الله، بل حكم بعد هذا الفتح مدة ثمانٍ وعشرين سنةً كاملة، كانت كلُّها مليئةً بالأهداف الكبرى، والطموحات العظيمة.
كان من أهدافه الكبرى أيضًا قمع جمهوريَّة البندقية العملاقة، التي تُهدِّد مصالح دولته في كلِّ مكان، وكان الهدف صعبًا، لكنَّه ليس مستحيلًا، فكَّرس حياته وحياة حكومته وشعبه لهذا الهدف، ووقف بقوَّة أمام هذه الجمهوريَّة القادرة، وأسطولها واقتصادها وعلاقاتها، وتطلَّب تحقيق الهدف حربًا طويلة الأمد، لم تستمر هذه الحرب شهرين كما حدث مع فتح القسطنطينية، ولكنَّها استمرَّت ستَّة عشر عامًا كاملة، من 1463 إلى 1479م، بذل فيها الفاتح جهودًا خارقة، واكتشف في نفسه، وقادته، وجيشه، وشعبه، طاقات كبيرة ما كانت تُدْرَك لولا وضوح الهدف وصعوبته، وفي النهاية وقَّعت البندقية معاهدة مذلَّة وضعت أنفها في التراب، وحقَّقت للدولة العثمانيَّة مجدًا غير مسبوق.
هذا كلُّه وضوحٌ للهدف مع علمنا بصعوبته وخطورته.
كما كان من أهداف محمد الفاتح أن يجعل البحر الأسود بحيرةً عثمانيَّة.
هذا هدفٌ صعبٌ للغاية، فمساحة البحر كبيرة، وسواحله طويلة، فهي تزيد على أربعة الآف وأربعمائة كيلو متر[2]، وليست هذه هي المشكلة الرئيسة في تحقيق الهدف؛ إنَّما المشكلة الرئيسة هي تنازع عدَّة قوى كبرى على الملاحة في هذا البحر، فهناك جمهوريَّة جنوة الإيطاليَّة، وهناك مملكة طرابزون البيزنطيَّة، وهناك خانات القرم في الشمال، وأيضًا هناك مملكة جورجيا، وإمارة البغدان، فضلًا عن طموحات البندقية وإن لم تكن تمتلك في هذا الوقت شيئًا في هذه السواحل. إنَّ ما يُميِّز هذه القوى جميعًا هو امتلاكها لأساطيل بحريَّة متمكِّنة تُوفِّر لها حركةً حرَّةً في البحر الأسود، كما أنَّها تمتلك قلاعًا قويَّةً في مواضع كثيرة من الساحل تجعل اختراق المدن المحميَّة بهذه القلاع أمرًا صعبًا حقًّا.
إنَّ الهدف صعب، ولكنَّه مهمٌّ للغاية، فالبحر الأسود يُمثِّل تهديدًا مباشرًا لجانبٍ كبيرٍ من الدولة العثمانيَّة، وخاصَّةً لعاصمتها إسطنبول، كما أنَّ بقاءه مشتركًا بين عدَّة دولٍ سيجعل مسألة المرور من المضايق البحريَّة عند إسطنبول للعبور إلى البحر الأبيض المتوسط أمرًا خطرًا من الناحية الاستراتيجيَّة، ولن تأمن الدولة العثمانيَّة إلَّا بامتلاك هذا البحر بكامله!
يحتاج هذا الهدف أسطولًا قويًّا، وجيشًا كبيرًا، ومعرفةً بالجغرافيا، وقدرةً على التخطيط، وعلاقاتٍ دبلوماسيَّة، ومهاراتٍ متعددةً للقادة والجنود، وهذا كله يحتاج إلى وقتٍ وفكرٍ ومال، ولكن بالجهد والمثابرة يتحقَّق الهدف، وهذا ما فعله الفاتح رحمه الله، فالمسألة لم تُحسم إلَّا من خلال عملٍ استمرَّ ثمانية عشر عامًا متَّصلة، لكن في النهاية تحقَّق وبنجاحٍ كبير، وصار البحر الأسود تقريبًا بحيرةً عثمانيَّةً في عام 1479م، ولم تبقَ فيه خارج السيطرة إلَّا بعض المدن الصغيرة.
وما قلناه عن البحر الأسود نقوله عن بحر إيجة، والسيطرة عليه أصعب من السيطرة على البحر الأسود لكثرة الجزر فيه، كما أنَّ القوى المتصارعة عليه أكبر وأضخم من تلك المتصارعة على البحر الأسود، ولقد بدأ الفاتح مبكرًا في التخطيط للسيطرة على هذا البحر، وذلك منذ عام 1453م، واستمرَّ سعيه ستَّة وعشرين عامًا دون توقُّفٍ، حتى صار في عام 1479م يُسيطر على معظم المنطقة الشماليَّة لبحر إيجة.
كان الفاتح رحمه الله كلَّما حقَّق هدفًا صعبًا وضع غيره نصب عينيه، فكانت الدولة في شغلٍ شاغلٍ طوال أيَّام حكمه، وما أعظم الهدف الذي ختم به حياته، وهو هدف فتح روما، وكان هذا الهدف معلنًا للحكومة، والجيش، والشعب، وكان الجميع يتحدَّث عنه، وبدأ الفاتح فعلًا في خطواتٍ لتحقيق الهدف لكن الأجل لم يمهله ومات قبل أن يستكمل خطواته يقول المؤرِّخ الإنجليزي الأميركي برنارد لويس: «كان الأتراك جاهزين لعدَّة حملاتٍ لفتح إيطاليا، لولا موت السلطان محمد الثاني في عام 1481م»[3].
هذه بعض أهداف محمد الفاتح رحمه الله، وليست كلها، وهذا التنوُّع الكبير في الأهداف، وعلو قيمتها، وصعوبة تنفيذها، يكشف بوضوح عن المعدن النفيس لهذا البطل الجليل، فما أروعه من مثال![4].
[1] Locke Edwin A. and Latham Gary, p. Building a Practically Useful Theory of Goal Setting and Task Motivation A 35-Year Odyssey [Book Section] // The American Psychologist / book auth. Association American Psychological. - USA : American Psychological Association, 2002, vol. 57, n (9), pp. 705-717.
[2] Thorpe, N., and Evershed, R. P. The earliest horse harnessing and milking. Science [Book]. - New York : N.Y, 2009, p. 318.
[3] Lewis Bernard Islam and the West [Book]. - New York, USA : Oxford University Press, 1993, p. 74.
[4] هذا المقال من كتاب "قصة محمد الفاتح" للدكتور راغب السرجاني .