TODAY - 26 September, 2010
رحل المسلحون وبقي الموت
سرمد الطائي
انسحاب المسلحين من الطرق الخارجية لا يعني انك ستسلم على حياتك. عجز الحكومة التنموي يجعل الدماء تسيل ايضا، والرعب الناتج عن الفشل الاداري لا يقل خطرا عن رعب القنابل. كم طريقة للموت تتاح في "جمهورية الفشل" يا ترى؟
لقد بدأت ألهج بالثناء على "المنجز" الامني للحكومة وخطة الجنرال ديفيد بترايوس في القضاء على العنف حين قطعت يوم الجمعة، الطريق الرابط بين بغداد وكركوك دون ان يصيبني الخوف في منطقة "العظيم". كنا قبل اعوام نقطع هذه المنطقة بحذر شديد، وأتذكر جيدا انني رأيت فجر يوم صيفي من العام 2006، جثث بضعة أشخاص مرمية على جانب الطريق اثر اطلاق المسلحين النار عليهم هناك. كان الذعر يسيطر علينا ونحن نشاهد بصعوبة ذلك المنظر الحزين، لكن الجندي في نقطة التفتيش القريبة، ظل يتعامل مع الموضوع بوصفه امرا "طبيعيا جدا". قال لنا انه يرى يوميا عشرات الجثث، وهو عاجز عن التعامل معها.
لا تزال هناك علامات على منجز 2008، بادية للعيان اذن رغم الخروقات الكبيرة في قلب العاصمة والصواريخ التي تقصف المنطقة الخضراء، وما يحدث في مدننا الاخرى كل يوم. لا بأس ان نسمي هدوء طريق منطقة "العظيم" بأنه "تحسن نسبي" او "هش" لكنه مفرح.
الا ان الفرح لا يكتمل حين تشعر ان السائق الماهر الذي يقود سيارتنا "يقاتل" او يخوض حرب شوارع، كي يقطع الطريق من بغداد حتى كركوك.
هناك شارع ضيق جرى تعبيده في سبعينات القرن الماضي يربط بين منطقتين استراتيجيتين، والشاحنات القادمة من موانئ البصرة تنقل البضاعة الى كردستان، بينما هناك عدد اكبر من الشاحنات القادمة من تركيا نحو بغداد، وبين هذه القوافل تحاول سيارات المدنيين ان تحصل على طريق تنفذ منه بصعوبة. جميع هذه المركبات الطويلة والقصيرة تحاول حشر نفسها في الدرب الضيق، والركاب يتفرجون على عشرات السيارات المحطمة على جانبي الشارع، نتيجة الحوادث التي تتكرر كل ساعة.
تمكنت في طريق الذهاب من احصاء اربع سيارات تحطمت حديثا، وأغرب ما شاهدت هو شاحنة كبيرة ضايقتها سيارة صغيرة في الطريق الضيق، فضربت نقطة تفتيش للجيش. السائق حزين على شاحنته التي تحطمت وكادت تقتل الناس، والجنود حزينون على مأواهم الوحيد وهو سقيفة بدائية لا تقي حرا ولا بردا منصوبة وسط الصحراء. قال احدهم: نجونا بأعجوبة. تسأل: كم عدد القتلى نتيجة الحوادث هنا، فيقال لك: لا احد يحصي الحوادث وضحاياها، فهي كثيرة.
حين تفتح الموضوع مع آخرين، تكتشف ان لدى كل عراقي حكاية عن "طريق موت" في احدى المدن. واحد في الكوت وآخر في الناصرية والحديث يطول.
يؤلمك ان ترى ان الشارع حين يقترب من كركوك، تظهر عليه "علامات الترف" المميزة للمنطقة الكردية. فعلى تخوم المدينة المتنازع عليها يتحول الطريق الضيق الى اوتوستراد عريض كالذي نشاهده في الدول المحترمة. قلت مرة ان الاكراد "يسبقوننا بساعة".
نهاية طريق كركوك المعبدة بشكل جيد، تعني بداية محاولات ناجحة لنسيان زمن الدمار وبدء لحظة جديدة. اما الجزء العربي من الطريق الطويل والمليء بالسيارات المحطمة والارواح المذعورة ونقاط التفتيش التي لا تسلم حتى على سقائفها البدائية من الاصطدام بالشاحنات، فهو حكاية دولة تتمسك بأسباب العجز وتنهمك في تبرير الفشل.
نفهم جيدا ان اصلاح الكهرباء بحاجة الى اموال كثيرة وخبرات تنقصنا كما يقال. نحاول تصديق ذلك. لكننا نعجز عن فهم فشل الحكومة في مد طريق يضمن نصف سلامة للمسافرين.
لنردد ثانية ان الاكراد نجحوا في "اجتثاث" سبب الموت قرب كركوك التي يطالبون بها. كأنهم قالوا لنا ان الجزء الخاص بالعرب من هذا الطريق، يليق بمناخات العنف في بغداد. اما الجزء الخاص بالاكراد فعليه ان يليق بفورة البناء والسلام التي تعم المدن الكردية. هذه الاشارة قد تعني ان الاكراد سينجحون في الفوز بالمدينة يوما، لأن العرب وهم طرف النزاع الثاني، مشغولون بالموت على ألف "طريق موت" موزعة في مدننا.
الفشل في البناء لا يقل خطورة عن الفشل في ضبط الأمن. عجز الحكومة يهدي لنا ألف طريقة للموت، وألف سبب للخوف.
غاب المسلحون من شارع "العظيم" لكن الموت يصر على البقاء مقيما هناك. لعبت "الصحوة" دورا في تأمين المنطقة، لكن اجهزة البناء ظلت بلا "صحوة"، ولا تزال الناس تموت، والجندي في نقطة التفتيش لا يزال يشاهد الجثث كل يوم.