كم شجرةً وارفةً على الطريق العام، كم شجرةً يابسة؟
فضع عبءَ أولِ جملةٍ عن لسانِك، وقلْ: لسانُك هو الطريقُ العام
وعن بيتِ اللغةِ، قلْ: إنه لا يفعل أكثرَ من احتكار الذهب، هذا بالطبع إن كانت اللغةُ ذهباً، فماذا لو كانت تراباً، يضاهي أن يتحول لسانك إلى تراب، تماماً، مثل الطريق العام، وإن اختليت يوماً مع لسانك في بيتِ اللغة، فلا تُسرع بإلقائه إلى المدفأة، فقد تحتاجه لتصرخ، طالباً النجدة، أو لتتحدث قليلاً مع اللغةِ في بيتها.
اللغةُ.. هأااااااااااااو.. فَمَنْ يصادقُ امرأةً تنام في كلِّ سرير، الحقيقةُ، أنا، نعم أنا، فمَنْ منكم يريد الاصطفافَ إلى جانبي، ربما استطعنا، أن نحوِّل امرأةً تنام في كلِّ سرير، إلى (المرأةُ تنامُ في سريري).. ونبني لها بيتاً يضم النحوَ والصرفَ وأقلامَ الرصاص، ونبني حوله سوراً عالياً، نقطع به الطريقَ العام وكلَّ طريقٍ عام، فلا يكون بيتُ اللغة، إلّا ما يدلُ عليك، وحيداً في سجنهِ، أو في أسلوبك الذي تحاول أن تزرعه شجرةً وارفةً على الطريق العام.
كان اللسانُ لتذوق الحياة، حتى نعرف إن كانت حلوةً أم مُرَّة، حمضيةً أم قلوية، فأفقدناه وظيفته السامية، وحولناه إلى مَمسَحةٍ للكلام، وأعطيناه هديةً للغة، تتبول عليه، كما تتبول كلبةٌ جرباء، على سبيكةِ عنبر، ومن يومها واللسانُ (سليطٌ).. حتى أنه لا يهدأ، في حوار العينين بينك وبين حبيبتك، فيقطعه بكلمةٍ نابية، أو برشفةٍ من العصير، تحول الصمتَ النبيلَ بينكما، إلى قلقٍ داهم.
لكن دعنا من اللسان الآن، فلا حل يُرجى إلّا بقطعه.
ولنعد إلى بيتِ اللغة… …
سنجد هناك، هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في (تقعيدها) حتى تصبح اللغة أثاثاً صالحاً للاستخدام في غرف النوم والصالونات الراقية والكتب، والحمامات العامة، والشجار والغزل، وبالطبع في الجدل، حول ما إذا كانت اللغة آلةَ احتراقٍ داخليٍ لقلبِ الإنسان، أو مُديةً لتقطيع لسانه إلى كلماتٍ وجملٍ وعباراتٍ وفقرات وكتب، فلا ينصبُ أحدكم سُرادقَ العزاءِ، على خرسه الأسمى، فربما نجا لسانه من المذبحة، واسترد جلالَ مهمته الأولى في تذوقِ الحياة.
قد يتهمني أحدكم، بأنني أخلطُ بين (اللغةِ والكلام).. نعم أنا أفعل ذلك، فما من لغةٍ إلا وتفضي في النهاية، إلى جريمةِ الكلام، وما من كلامٍ إلا وينام آخر الليل، في بيتِ اللغة، حيث القواميس التي صدئت أنفاسُ أصحابها، وهم ساهرون على تدوين أنفاسنا، وكأن القاموس هو المُنتهى، لارتطام الفراشاتِ بجدار النار.
فلا تؤذي شغفك البدائي بالتلعثم، لأنه خيرٌ وأبقى زادٍ لمحنةِ قلبك، هذا الذي لا تروق له الحياةُ في بيتِ اللغة، وله أسلوبه في ضخ الدم إلى وجهك، حينما تعوزك كلمةُ الخجل، وفي بسط جناح العشق، لتجلس عليه حبيبتُك وتضع ساقاً على ساق، سعيدةً بالصمت الذي يهدهد الجناحَ كأرجوحةٍ لا ترى إلا قلبك.
ولا تقلْ لي إنَّ اللغة ستبقى بعد موتي، فأنا أعلم ذلك، وأسعى فقط للانتقام، كأن أهدم بيتها، بذبح مليارات البشر، أو.. نشبتُ اللغة أظافرها في عنقي، وجرَّتني جرَّاً إلى بيتها، وها أنا بعد موتي، سأجرَّها، كلَّها، أو بعضها معي، إلى المقبرة.
منقوول
إبراهيم المصري
من كتاب (بيت الخالة.. 2013 مخطوط)