قصة من عالم البرزخ
رحلة البقاء
الجزء العاشر
نظرت إلى جنازتي وإذا بوحوش مخيفة مرعبة قد اقتربت منها وأحاطت بها وتهيأت لافتراسها.
يا الهي ماذا افعل وليس لدي سلاح فأتجرأ به على الاقتراب منهم وأبعادهم، وكلما دنوت منهم توجهوا نحوي وألقوا علي نظرات مخيفة أكاد أذوب من هولها، وكلما وضعوا أنيابهم على جنازتي أحس بألم شديد لا يطاق وكأنهم يقطعون روحي ويمزقونها وليس بدني الملقي في التابوت، فلا ادري ما هذه العلاقة بيني وبين بدني بعد انفصالي منه، ولم يكن هناك معين استعين به، ولا ناصر انتصر به وألوذ إليه، فبدأت اصرخ واستغيث بصوت عال، وقلت في نفسي عجيب هذا الذي انتخبوه لمبيت المسجد ألا ينهض من صراخي؟
ساعة مضت من العذاب وكأنها سنين، هنالك أطلت إشراقة صديقي مؤمن وهو يدخل المسجد وبيده قرآنه الصغير، فتنفست الصعداء عند رؤيته، وتوجهت أنظار الوحوش نحوه، فتعجبت من عدم خوفه منهم وجلوسه جنب التابوت وقد أحاطوا به، لكن ما أن فتح قرانه، وبدأ يتلو ما تيسر منه حتى لاذت الوحوش بالفرار من كل جانب، ولم يبق أحد منهم، حينها أردت شكر مؤمن لكن لم تكن لي طاقة الكلام معه، فألقيت بنفسي في مكاني الذي كنت جالساً فيه لعل الألم والخوف يغادرني.
زال الألم عني بتلاوة القرآن ورنين آياته، فقمت وجلست بجنب مؤمن وسلمت عليه وكلمته مرة وناديته أخرى، لكن لا جواب، حينها قلت لنفسي يبدو انكِ لا تريدين القبول بأنك خرجت من دار الدنيا، وكل آدمي ما زال فيها لا يسمع كلامكِ، ولا يرد جوابكِ! حينها تمنيت العودة للدنيا لا لشيء إلا لأشكر صديقي مؤمن وأمسح دموعه التي تنزل من عينيه وتجري على خديه، وأقول له أني ما زلت بخير على الرغم من غموض المسير وجهل المصير.
أشرقت شمس الصباح، وبدأ الناس يجتمعون في المسجد الواحد تلو الأخر، حتى حان موعد الرحيل، فحملوا النعش مسرعين بين بيوت المحلة سائرين ومنادين (لا اله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله) وقد حلقت فوقهم أرى من ينادي ومن يبكي ومن يذكر الله ويستغفر، ورأيت ابني الصغير يبكي ويصرخ بين أحضان خالته، فاختلطت دموعه بدموعها وهما يسيران ليلحقا بمن تقدم عليهما حتى وصلوا المقبرة، فدخلوها واستقروا بجوار حفرة قد هيئوها بعد أن وضعوا النعش بجنبها.
كان خوفي عظيما وفكري مشغولا بظلمة القبر ووحشته وغربته ووحدته، وما هي إلا ساعة تمضي وكل هذا الجمع العظيم سيغادر المكان، ولا يبقى غيري أنا وبدني داخل هذه الحفرة الضيقة، وتحت هذا التراب الذي سيُصب فوق رأسي، ولا ادري ما يجري بعدها لا ادري...
اكتمل حفر القبر وتعديله فحملوا البدن مطويا بكفنه، ترافقه أصواتهم بالصلاة على محمد وآله، ووضعوه في محله ومأواه الأخير، حينها بدأ الملقن بالتلقين، وكلما نطق بكلمة أعدتها خلفه، وكلما نادى ياعبدالله، أجبته قائلا نعم إني اسمع ما تقول(1)، حتى انتهى من كلامه ونادى الحاضرين بالصلاة مرة أخرى على محمد وآله، وما أن أكملوا صلاتهم حتى بدأ اثنان منهم بإلقاء التراب على البدن المسكين، ولم يتركوه إلا بعد أن امتلأ ما فوقه، وتساوت الأرض معه ونثروا الزائد من ترابه هنا وهناك.
بدأ المشيعون بمغادرة المكان الواحد تلو الآخر جمعا وفرادى وأنا أنظر إليهم واسمع كلامهم. ذهب الجميع ولم يبقى غير صديقي مؤمن إذ قال لهم إني أبقى معه ساعة أخرى، كي لا يستوحش سعيد في أول دخوله قبره، ولأعيد عليه تلقين الشهادتين مرة أخرى حتى لا يكل لسانه بنطقها، ولا يتردد في جوابها عند سؤال الملكين اياه.
ماذا سيحل بسعيد بعد ان يغادره صديقه مؤمن وماذا سيحصل له في القبر هذا ما سنرويه لكم ..؟
فانتظرونا مع الجزء الحادي عشر ان شاءالله تعالى