في فتح القسطنطينية… نعم الأمير ونعم الجيش
خاص ترك برس
انتظر المسلمون ثمانية قرون ونصف قرن حتى تحققت البشارة التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ»، وكان ذلك في عهد الدولة العثمانية زمن السلطان العثماني محمد الفاتح، رجل الدولة والأمير القائد راعي الحضارة الإسلامية.
من هو محمد الفاتح؟
هو محمَّد الثَّاني، السُّلطان العثماني السَّابع في سلسلة آل عثمان ويلقَّب بالفاتح، وأبي الخيرات، وقد حكم ما يقرب من ثلاثين عاماً كانت خيراً وعزَّةً للمسلمين، ولد في (27 رجب 833 هـ / 30 مارس 1429م)، ونشأ في كنف أبيه السلطان (مراد الثاني) الذي اهتم بتنشئته تنشئةً علمية وجسدية، وتربيته تربية سياسية وعسكرية خاصة منذ طفولته، بحيث تعهّده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرًا بالسلطنة والنهوض بمسؤولياتها؛ فأتم حفظ القرآن، وقرأ الحديث، وتعلم الفقه، ودرس الرياضيات والفلك والتاريخ الإسلامي، وتعلم العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، وتعلم أمور الحرب وركوب الخيل والرمي والمبارزة، واشترك مع أبيه السلطان مراد في حروبه.
وتذكُر كتب التاريخ والسِّير أن محمد الفاتح تتلمذ على يد كبار علماء عصره، مثل: «أحمد بن إِسماعيل الكوراني» الذي حبَّبه في الإسلام، والعمل بالقرآن، وحب العلم وتقدير العلماء وجعله يُقبِل عليه بهمَّةٍ ونشاط، وتأثَّر محمد الفاتح أيضاً بالشيخ «آق شمس الدين سنقر» الذي كان أول من زرع حلم "فتح القسطنطينية" في ذهنه منذ الصغر، وكبر الفتى وهو يصبو إلى تحقيق ذلك الحلم.
وقد تسلم محمد الفاتح الحكم بعد وفاة أبيه في (5 محرم 855 هـ/ 7 فبراير 1451م)، وبدأ في التجهيز لفتح القسطنطينية، ليحقق الحلم الذي يراوده، وليكون هو محل البشارة النبوية، وفي الوقت نفسه يسهل لدولته الفتية الفتوحات في أوروبا، ويقضي على أعدائه الذين يتربصون به.
استعداد جيشه العظيم قبل فتح القسطنطينية
وضع محمد الفاتح خطة عبقرية قبل فتح القسطنطينية، تحدّث عنها المستشرقون بانبهار شديد، فقالوا: «ما رأينا، ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشَّيء الخارق، محمَّد الفاتح يحوِّل الأرض إِلى بحار، وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمَّد الثَّاني بهذا العمل الإِسكندر الأكبر»، حيث شيّد على الجانب الأوروبي من البوسفور قلعة كبيرة عُرفت باسم قلعة (روملي حصار) لتتحكم في مضيق البوسفور في مدة زمنية لا تتعدى الأشهر الثلاثة، وقام ببناء سفن جديدة في بحر مرمرة لكي تسد طريق الدردنيل، واستقدام خيرة الخبراء العسكريين، ومن بينهم الصانع المجري الشهير (أوربان) الذي استطاع صُنْعَ مدافع عظيمة عملاقة لم تشهدها أوروبا من قبل، تقذف كرات هائلة من الحجارة والنار على أسوار القسطنطينية.
حشد الفاتح جيشه البالغ 265 ألف مقاتل من المشاة والفرسان، تصحبهم المدافع الضخمة، واتجهوا إلى القسطنطينية، واستمرَّ حصار المدينة ثلاثة وخمسين يومًا، تمَّ خلالها بناء منشآت عسكرية ضخمة، وقد بذل البيزنطيون قصارى جهدهم في الدفاع عن المدينة، واستُشهِد عدد كبير من العثمانيين في عمليات التمهيد للفتح، وكان من بين العقبات الرئيسية أمام الجيش العثماني تلك السلسلة الضخمة؛ التي وضعها البيزنطيون ليتحكَّمُوا بها في مدخل القرن الذهبي، والتي لا يمكن فتح المدينة إلَّا بتخطِّيها، وقد حاول العثمانيون تخطِّي هذه السلسلة دون جدوى؛ وقاموا بجرّ السُّفن من البوسفور إِلى البر حيث سُحبت على الأخشاب المدهونة بالزَّيت مسافة ثلاثة أميال، حتَّى وصلت إِلى نقطةٍ آمنةٍ، فأنزلت في القرن الذَّهبي، وتمكَّن العثمانيُّون في تلك اللَّيلة من سحب أكثر من سبعين سفينة، وإِنزالها على حين غفلةٍ من العدوِّ بطريقةٍ لم يُسبق إِليها السُّلطان الفاتح قبل ذلك، وقد كان يشرف بنفسه على العمليَّة الَّتي جرت في اللَّيل بعيداً عن أنظار العدوِّ، ومراقبته. كان هذا العمل عظيماً بالنسبة للعصر الَّذي حدث فيه، بل معجزةً من المعجزات، تجلَّت فيه سرعة التَّفكير، وسرعة التَّنفيذ، ممَّا يدلُّ على عقلية العثمانييِّن الممتازة، ومهارتهم الفائقة، وهمتهم العظيمة. لقد دهش الرُّوم دهشةً كبرى عندما علموا بها، فما كان أحد ليستطيع تصديق ما تمَّ، لكن الواقع المشاهد جعلهم يذعنون لهذه الخطَّة الباهرة، وتمَّ استكمال حصار المدينة من كل الجبهات.
يوم فتح القسطنطينية، والدروس المستفادة منه
عند السَّاعة الواحدة صباحاً من يوم الثَّلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1435م بدأ الهجوم العامُّ على المدينة بعد أن أُصدرت الأوامر للمجاهدين الَّذين علت أصواتهم بالتَّكبير، وانطلقوا نحو الأسوار، وخاف البيزنطيُّون خوفاً عظيماً، وشرعوا في دقِّ نواقيس الكنائس، والتجأ إِليها كثيرٌ من النَّصارى، وكان الهجوم النِّهائي متزامناً برِّيَّاً، وبحريَّاً في وقتٍ واحدٍ حسب خطَّةٍ دقيقةٍ أُعدَّت بإِحكامٍ.
وكانت الكتائب الأولى من العثمانيِّين تمطر الأسوار والنَّصارى بوابلٍ من القذائف والسِّهام محاولين شلَّ حركة المدافعين، ومع استبسال البيزنطيِّين، وشجاعة العثمانيِّين كان الضحايا من الطَّرفين يسقطون بأعدادٍ كبيرةٍ، وبعد أن أُنهِكت الفرقة الأولى الهجوميَّة، كان السُّلطان قد أعدَّ فرقةً أخرى، فسحب الأولى، ووجَّه الفرقة الثَّانية، وكان المدافعون قد أصابهم الإِعياء، وبعد ساعتين من تلك المحاولات أصدر الفاتح أوامره للجنود بالرَّاحة، بعد أن أرهقوا المدافعين في تلك المنطقة، وفي الوقت نفسه أصدر أمراً إِلى قسمٍ ثالثٍ من المهاجمين بالهجوم على الأسوار من نفس المنطقة، وفوجئ المدافعون بتلك الموجة الجديدة بعد أن ظنُّوا: أنَّ الأمر قد هدأ، كما كان القتال يجري على قدمٍ وساق في المنطقة البحريَّة، ممَّا شتَّت قوَّات المدافعين، وأشغلهم في أكثر من جبهةٍ في وقتٍ واحدٍ.
ومع بزوغ نور الصَّباح أصبح المهاجمون يستطيعون أن يحدِّدوا مواقع العدوِّ بدقَّةٍ أكثر، وشرعوا في مضاعفة جهودهم في الهجوم، حيث أمطرت المدفعية الأسوار بوابلٍ من القذائف، وجاء قسمٌ جديدٌ من شجعان الإِنكشاريَّة، استطاع ثلاثون منهم تسلُّق السُّور أمام دهشة الأعداء، وتمكنوا من تمهيد الطَّريق لدخول المدينة عند طوب قابي، ورفعوا الأعلام العثمانيَّة، ممَّا زاد في حماس بقيَّة الجيش للاقتحام، كما فتُّوا في عضد الأعداء.
ولما رأى قسطنطين الأعلام ترفرف على الأبراج الشَّماليَّة للمدينة، أيقن بعدم جدوى الدِّفاع، وخلع ملابسه حتَّى لا يعرف، ونزل عن حصانه، وقاتل حتَّى قتل في ساحة المعركة، وكان لانتشار خبر موته دورٌ كبيرٌ في زيادة حماس المجاهدين العثمانيِّين، وسقوط عزائم النَّصارى المدافعين، وتمكَّنت الجيوش العثمانيَّة من دخول المدينة من مناطق مختلفةٍ، وهكذا تمكَّن المسلمون من الاستيلاء على المدينة، وكان الفاتح ـ رحمه الله ـ مع جنده في تلك اللَّحظات يشاركهم فرحة النَّصر، ولذَّة الفوز بالغلبة على الأعداء من فوق صهوة جواده، وكان قوَّاده يهنئونه، وهو يقول: (الحمد لله، ليرحم الله الشهداء، ويمنح المجاهدين الشَّرف، والمجد، ولشعبي الفخر، والشكر!).
ولم يأت ظهيرة ذلك اليوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 857هـ الموافق 29 من مايو 1453م، إِلا والسُّلطان الفاتح في وسط المدينة يحفُّ به جنده، وقوَّاده، وهو يردِّدون: ما شاء الله! فالتفت إِليهم، وقال: لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينيَّة الَّذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنَّأهم بالنَّصر، ونهاهم عن القتل، وأمرهم بالرِّفق بالنَّاس، والإِحسان إِليهم، ثمَّ ترجَّل عن فرسه، وسجد لله على الأرض شكراً، وحمداً، وتواضعاً لله تعالى.
ثم توجه الفاتح العظيم إلى كنيسة (آيا صوفيا)، وأمر بتحويلها مسجدًا، وأمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل (أبي أيوب الأنصاري) الذي كان ضمن صفوف المحاولة الأولى لفتح المدينة العريقة، وقرر اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم (إسلام بول) أي دار الإسلام، ثم حُرفت بعد ذلك واشتهرت بإستانبول، وانتهج سياسة متسامحة مع سكان المدينة، وكفل لهم ممارسة عباداتهم في حرية كاملة، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار إلى منازلهم.
إِنَّ السُّلطان محمَّداً الفاتح لم يُظهر ما أظهره من التَّسامح مع نصارى القسطنطينيَّة إِلا بدافع التزامه الصَّادق بالإِسلام العظيم، وتأسيا بالنَّبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم، ثمَّ بخلفائه الرَّاشدين من بعده، الَّذين امتلأت صحائف تاريخهم بمواقف التَّسامح الكريم مع أعدائهم.
لقد كان السلطان محمد الفاتح رجلاً مسلمًا ملتزمًا بأحكام الإسلام، تقيًّا ورعًا؛ وذلك بفضل النشأة التي نشأها وأثَّرت فيه تأثيرًا عظيمًا، فقد تميَّز بشخصيَّةٍ فذَّةٍ، جمعت بين القوَّة، والعدل، كما فاق أقرانه منذ حداثته في كثيرٍ من العلوم الَّتي كان يتلقَّاها في مدرسة الأمراء وخاصَّةً معرفته لكثيرٍ من لغات عصره، وميله الشَّديد لدراسة كتب التَّاريخ، وكان يتصف بالحزم، والشَّجاعة، والذَّكاء، والعزيمة، والإِصرار، والعدالة وعدم الاغترار بقوَّة النَّفس، وكثرة الجند، وسعة السُّلطان، والإِخلاص، والعلم، أمَّا سلوكه العسكري فكان متحضِّرًا لم تشهده أوربا في عصورها الوسطى، ولم تعرفه شريعتها من قبلُ.
وكان لفتحه القسطنطينية أثرٌ عظيمٌ على العالم الإِسلاميِّ، والأوربيِّ، وقد شكل حدثاً غيّر مجرى التاريخ، إذ اعتبره المؤرخون نهاية للعصور الوسطى وبداية العصر الجديد، وبعد اتخاذ القسطنطينية عاصمة للدولة العثمانية باتت منارة لانتشار الفكر الإسلامي، وملجأ لعلماء ومفكرين الأمة الإسلامية آنذاك، حيث أصبح الإسلام أحد أهم محركات السياسة العالمية من جديد، وبات للمسلمين دوراً أساسياً في شتى الأحداث العالمية بعد أن توحدت الإمبراطورية العثمانية في آسيا وأوروبا، وأصبحت مركزاً تجارياً من أعظم مراكز التجارة في العالم، حيث فتحت القسطنطينية للعثمانيين الطريق لأن يصبحوا قوة بحرية هائلة، ومركزاً لبناء الأساطيل، ومدرسة لتعليم فنون القتال العثمانية من نظام الإنكشارية وقوات المشاة الخفيفة.