رجل من البادية نزل بغداد للعلم والتجارة، واستأجر غرفة ليسكن فيها. بعد صلاة الفجر يخرج للعمل، وبعد صلاة الظهر يذهب إلى دروس العلم والمعرفة.
كان هذا الشاب يقسم أجر عمله إلى ثلاثة أقسام: ثلث لأبيه، وثلث لصاحب الغرفة، وثلث لنفقته. مرت عليه ثلاثة أشهر لا يستطيع أن يدفع إيجار سكنه، فقال له صاحب الغرفة: أمامك ثلاثة أيام لدفع الإيجار وإلا سجنتك لأنى ما بنيت هذا البيت وقفا للفقراء. خرج يبحث عن عمل فى اليوم الأول فلم يجد، ذهب إلى ديوان الخراج يسألهم عن عمل فلم يجد، إلى أن جاء اليوم الثالث يوم سجنه، فخرج من بيته حاملا الدنيا فوق رأسه، يقول: أخذت فى المشى إلى أن وجدت نفسى فى أطراف بغداد، فوجدت بيتا متهالكا فقلت: أستريح، ووضعت يدى على الباب فإذا الباب مفتوح، وإذ بشيخ مسن مضطجع على سرير، فنادى على وقال لى: اسمع يا بنى: ووالله ما ساقك إلىَّ إلا الله، وأنا الساعة أموت، وأشتهى عنبا، فقلت له: أبشر، ووالله لتأكلن اليوم عنبا. فانطلقت إلى السوق وذهبت إلى بائع يبيع العنب وسألته: بكم هذا العنب؟ فقال: بدرهم، فقلت له: خذ ثوبى هذا رهنا عندك إلى أن آتيك بالمال. وأخذت العنب وأنا أجرى به حتى ألحق الرجل قبل موته، وقدمت إليه العنب، مع أنى فى حاجة إليه أكثر منه، وبعد أن أكل العنب قال لى: اسمع يا بنى: هذا الركن فى هذه الغرفة احفر تحته وستجد شيئا، أخذت فى الحفر إلى أن وجدت جرة مليئة بالمال والذهب، وقدمتها له، فسكبها فى ملابسى ثم قال لى: هى لك، لكن لهذا المال قصة يا بنى، كنت أنا وأخى تاجرين كبيرين نذهب للهند والسند، ونتاجر فى الحرير والصوف، وكنا نخاف من اللصوص وقطاع الطرق، وفى يوم من الأيام نزلنا منزلا فقلت لأخى: هذا المنزل يرتاده قطاع الطرق، وأنا أخشى على مالى ومالك، أعطنى مالك كى أخفيه مع مالى فى مكان آمن، ثم أرجع إليك، فإن أصبحنا وسلمنا أخذنا مالنا ومشينا.
يقول: وما كنت أدخل فى النوم مع أخى إلا وجاء اللصوص وقتلوا من قتلوا، ونهبوا ما نهبوا، وما فقت إلا من حر الشمس فى اليوم التالى، وأخذت أبحث عن أخى فلم أجده لا بين الأحياء ولا بين الأموات، فدخلت بغداد وبنيت هذا البيت، وأخفيت هذا المال الذى هو مال أخى منذ عشرين عاما، فإن مت فهو حلال لك، ثم نطق الرجل بالشهادتين ومات.
يقول: فأخفيت المال وخرجت على من يعيننى على دفن هذا الشيخ، وبعد دفنه عدت لآخذ جرة المال، فبعد أن كنت فقيرا معدما أصبحت من أثرياء بغداد.
يقول: أخذت المال وذهبت إلى بائع الخضار وأعطيته ثمن العنب وأعطانى ثيابى. ثم أردت أن أركب مركبا لأنتقل إلى الناحية الثانية من نهر دجلة والفرات، فوجدت مراكب كثيرة، لكننى وجدت مركبا صاحبه يبدو عليه الفقر والعوز، فركبت معه وقد أحزننى حاله، وقد هممت أن أعطيه من هذا المال الذى معى، فبكى، ثم قال: ووالله ما كنت فقيرا فى يوم من الأيام، فقد كنت تاجرا أذهب إلى الهند والسند، وأتاجر فى الحرير والصوف، وكان لى أخ لا بارك الله فيه قد اتفق مع اللصوص كى يقتلوننى ويأخذوا مالى، لكن الله نجانى، إلى أن آل بى المآل إلى بغداد.
يقول فاسودت الدنيا فى عينى مرة ثانية، لقد أصبحت الجرة من نصيب صاحبها، ولابد للمال أن يعود إلى صاحبه، تدخل الشيطان وقال لى: أعطه بعضه أو نصفه، إلى أن توقفت وقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقلت له: هذا المال مالك، فلم يصدق الرجل، وحكيت له ما حدث بينى وبين أخيه، وأننى قد دفنته من ساعة فقط، فأخذ الرجل يبكى ويستغفر ربه لسوء ظنه بأخيه، ثم أراد أن يعطينى شيئا من هذا المال فأبيت، لكننى طلبت منه أن يعذرنى فى درهم العنب.
يقول: فرجعت إلى بغداد مرة ثانية، فقيرا معدما كما خرجت منها من قبل، وبينما أنا أسير إذ بالعسكر الذين يعملون فى ديوان الخراج ينادون علي ويقولون لى: نبحث عنك، فقلت: سيسجنوننى لعدم دفعى إيجار الغرفة،ثم قالوا لى: لقد مات بالأمس أحد الكتاب بالديوان ونبحث عنك كى تعمل بدلا منه، فأدخلونى عندهم وأعطونى مرتب شهر، فذهبت إلى صاحب الدار وأعطيته حقه فى الإيجار إلى أن أصبحت وزيرا. إنه العالم الفقيه الوزير
" *ابن هُبَيْرة*". المولود سنة 449 هجرية ، المتوفى 560هجرية.قال عنه ابن الجوزى : خرج فى جنازته مالم ير فى جنازة غيره فى عصره.
*{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}*.
منقول