لدى التفكير في مواد البناء المستخدمة في أعمال التشييد، دائمًا ما تقفز إلى الأذهان خرسانة الأسمنت، فلقد تربعت وحدها على عرش مواد البناء خلال القرن المنصرم، وتشير دراسات علمية إلى أنها أكثر المواد استهلاكًا على مستوى العالم بعد الماء.
في المقابل، تبدو كلفة استخدام هذه الكميات الهائلة من خرسانة الأسمنت على البيئة "وخيمةً للغاية"؛ إذ تسهم صناعة الأسمنت بمفردها في انبعاث 2.8 جيجا طن من غاز ثاني أكسيد الكربون سنويًّا، أي قرابة 8% من إجمالي انبعاثاته على مستوى العالم، الأمر الذي يحتم البحث عن مواد بناء بديلة.
وفي إطار محاولة استحداث مواد بناء جديدة صديقة للبيئة، تمكَّن فريق بحثي من جامعة كولورادو بولدر بالولايات المتحدة الأمريكية من تطوير خرسانة حية غير تقليدية باستخدام البكتيريا والرمال، وذلك وفق نتائج الدراسة المنشورة منتصف يناير من العام الجاري، في المجلة العلمية "ماتر" Matter، أحد إصدارات مجموعة دوريات سيل Cell المرموقة.
يوضح ويل سروبار -الأستاذ المساعد بجامعة كولورادو بولدر وقائد الفريق البحثي- في تصريح خاص لـ"للعلم"، قائلًا: "قمنا بابتكار مواد بناء حية هجينة، يمكنها أداء وظائف بنائية وحيوية على السواء، إذ أمكن لعلم الأحياء أن يؤدي دورًا في تصنيع مواد بناء قوية ذات قدرة على التحمُّل، ويمكنها أيضًا التجدُّد بعد الاستخدام. بجانب هذا، فإن غالبية مواد البناء كالأسمنت يستهلك تصنيعها كميات هائلة من الطاقة، وينتج عنه انبعاثات ملوِّثة هائلة أيضًا، لذا فإننا مبهورون بفكرة استخدام البكتيريا في عمليات تصنيع مواد البناء".
التمعدن الحيوي.. كلمة السر
تمكَّن العلماء من تطوير هذه المواد عبر إضافة أحد أنواع البكتيريا إلى دعامات مكونة من الرمل والهلام المائي (هيدروجيل)، مما يتيح لتلك البكتيريا أن تتكاثر على تلك الدعامات ثم تقوم بمعدنتها -أي إكسابها خواص معدنية- منتجةً مواد بناء حية ذات قدرة تحمُّل مكافئة للملاط (أو ما يطلق عليه "المونة" التي تملأ الفراغات بين قوالب الطوب) المصنوع من الأسمنت.
تنتمي البكتيريا المستخدمة في إنتاج مواد البناء الحية إلى نوع من البكتيريا يُعرف بالسيانوبكتيريا أو "البكتيريا الزرقاء" Cyanobacteria تحديدًا من جنس "المتعاقبة الحبيبية"Synechococcus. وتتسم تلك البكتيريا بقدرتها على القيام بعملية البناء الضوئي، بالإضافة إلى إنتاج كربونات الكالسيوم، الذي يُعَد المكون الأساسي لعدد من مواد البناء، كالأسمنت والحجر الجيري.
من خلال عملية التمعدن الحيوي يتحول خليط البكتيريا والرمل والهلام إلى قالب طوب يمتلك ذات قوة خرسانة الأسمنتcredit: College of Engineering and Applied Science at Colorado University Boulder
لتصنيع قالب من الطوب باستخدام تلك البكتيريا، يتم حقنها في قالب من الرمل والهلام المائي الذي يؤدي دور الوسيط الملائم لنمو البكتيريا عبر توفير الغذاء والماء. ولدى نمو البكتيريا المحقونة وتكاثرها تقوم بإنتاج كربونات الكالسيوم، التي تعمل على إكساب ذلك الهلام خواص معدنية، في عملية تعرف بالتمعدُن الحيوي. فالأمر -إذًا- أشبه باستفادة الجنين البشري بالعناصر الكيميائية الموجودة في جسمه في تكوين العظام الصلبة.
وبهذا يتحول خليط البكتيريا والرمل والهلام إلى قالب طوب، وعبر التحكم بشكل دقيق في درجة الحرارة والرطوبة يمكن الحصول على قالب طوب يمتلك قوة خرسانة الأسمنت ذاتها.
قالب طوب قابل التكاثر!
لا تتوقف مواد البناء الحية تلك على احتوائها على البكتيريا فحسب، إذ يمكن لقالب طوب مصنوع من هذه المواد أن يتكاثر أيضًا! فقد تمكن فريق الباحثين من الحصول على 8 قوالب من ذلك الطوب باستخدام قالب واحد فقط، بقسمة قالب واحد من الطوب إلى نصفين، وعبر إضافة قليل من الرمل والهلام المائي أمكن لكل نصف أن ينمو ليصبح قالب طوب كاملًا، فمن خلال التحكم في درجتي الحرارة والرطوبة يمكن التحكم في نمو البكتيريا وتحفيزها، لتقوم البكتيريا الموجودة في النصف الأول من قالب الطوب بعملية التمعدن الحيوي للهلام والرمل المضاف لاحقًا.
يعلق على تلك التقنية، أندريا هاميلتون، وتشارلز ناب، الباحثان في قسم الهندسة المدنية والبيئية بجامعة ستراثكلايد الإسكتلندية، غير مشاركين بالدراسة: "تُعد تلك إحدى مميزات استخدام البكتيريا الزرقاء، إذ إن لها القدرة على إعادة النمو مرةً أخرى استجابةً للتغيرات في عوامل الحرارة والرطوبة، وذلك دون أن تموت كما قد يحدث لأنواع أخرى من البكتيريا المستخدمة".
عبر تلك العملية يمكن إنتاج قالب طوب كامل من كل نصف قالب طوب، وقد تمكَّن فريق الباحثين من تكرار الأمر عبر ثلاثة أجيال ليتم إنتاج 8 قوالب جديدة من قالب واحد. الأمر الذي "قد يمثل ثورة هائلة في كيفية تصنيع مواد البناء دون الحاجة إلى استهلاك طاقة هائلة، أو مزيد من الانبعاثات الملوِّثة للبيئة".
ويؤكد أتشال فارينيام، أستاذ العلوم البيئية بجامعة شرق الصين -غير مشارك بالدراسة- في تصريح لـ"للعلم" على تلك النقطة قائلًا: "بخلاف العديد من مواد البناء التقليدية، لا تتسبب مواد البناء ذات الأساس البكتيري في انبعاثات ثانوية. بعبارة أخرى، يمكن لمواد البناء تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون عبر تقليل نسبة الانبعاثات الناجمة عن صناعة الأسمنت".
معالجة الشروخ ذاتيًّا
من الخصائص فائقة الأهمية للمواد البنائية الحية الجديدة امتلاكها القدرة على معالجة الشروخ التي قد تتكون فيها بشكل ذاتي، الأمر الذي يحدث من خلال خاصية التمعدن الحيوي الذي تقوم به بكتيريا المتعاقبة الحبيبية الموجودة في مواد البناء تلك.
يوضح ذلك الأمر "فارينيام": "مواد البناء الحيوية التي تحوي البكتيريا يمكنها إنتاج كربونات الكالسيوم بشكل مستمر. الأمر الذي يعني امتلاكها خاصية الالتئام الذاتي لسد تشققات مواد البناء وشروخها بشكل أوتوماتيكي. ولهذا الأمر يمكن لمواد البناء الحية الجديدة إحداث ثورة في عالم مواد البناء".
تُعرف تلك العملية باسم "ترسيب كربونات الكالسيوم المحرض باستخدام الكائنات الدقيقة"، التي تُعَد الفكرة الرئيسية وراء استخدام البكتيريا في مواد البناء، إذ تشير دراسة مراجعة منهجيةنُشرت عام 2018 إلى أنه خلال العقد المنصرم كان هناك اهتمام من قِبَل العديد من العلماء والباحثين بتلك العملية، خاصةً بغرض الالتئام الذاتي للخرسانة، إذ نُشرت العديد من الأبحاث التي تناولتها تلك المراجعة.
بالإضافة إلى هذا، يشير "هاميلتون" و"ناب" إلى بكتيريا المتعاقبة الحبيبية التي تتمتع بمميزات أخرى، ترشح مواد البناء الحية المصنوعة منها لاستخدامها في البيئات القاسية، إذ تقوم بعملية ترسيب كربونات الكالسيوم المحرَّض بفعل الكائنات الدقيقة بشكل فعال، كما يمكنها البقاء على قيد الحياة باستخدام الحد الأدنى من المغذيات، بجانب قدرتها على تحمُّل الظروف القاسية، كالحموضة أو القلوية الزائدتين، أو ارتفاع الملوحة أو الحرارة.
تطبيقات مستقبلية واعدة، ولكن
يأمل الفريق البحثي أن يكون لمواد البناء الحية الجديدة العديد من التطبيقات الأخرى في المستقبل، فمن خلال استخدام أنواع أخرى من البكتيريا بالمواد البنائية يمكنها أن تمتلك خواصَّ حيويةً أخرى، مثل استشعار الملوِّثات الموجودة في البيئة المحيطة وتحييدها، أو حتى توفير الإضاءة بشكل ذاتي عند الحاجة.
لكن لا تزال هناك العديد من التحديات التي تواجه فريق الباحثين، إذ يوضح "سروبار": "نحن نعمل على تحسين تركيبات المواد بغرض تعزيز خصائصها الميكانيكية، بجانب استمرارية حيويتها وقدرتها على التحمُّل على المدى الطويل. كما أننا نستكشف استخدام كائنات حية دقيقة أخرى يمكنها إضافة وظائف حيوية مهمة أخرى لمواد البناء الحية".
وأضاف أن استخدام مواد البناء الحية الجديدة بشكل تجاري قد لا يكون سهلًا، إذ يعقب "هاميلتون" و"ناب" على ذلك بقولهما: "تواجه أية مواد بناء جديدة تحديًا يتمثل في أن عالم الصناعة أكثر تحفظًا، إذ تحتاج تلك المواد إلى أن تكون قياسية وذات خصائص يمكن التنبؤ بها، وهذه عملية بطيئة للغاية. كما أن توسيع نطاق أية عمليات تتم بالمعمل يتضمن تحديات تقنية ولوجستية عديدة، بجانب عبء جعلها ذات جدوى اقتصادية". وفي نهاية المطاف، يؤكد "سروبار" أن الأمر لا يزال في المراحل الأولى، لكنه يتوقع أن تكون مواد البناء الحية متاحةً للاستخدام بشكل تجاري في غضون 5 إلى 10 سنوات قادمة.