أين الله ؟! من هو الله ؟! ما هي صفة الله ؟!
*
عَنْ الْإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ :
أَنَّ بَعْضَ أَحْبَارِ الْيَهُودِ جَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : أَنْتَ خَلِيفَةُ نَبِيِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؟
فَقَالَ لَهُ : نَعَمْ .
فَقَالَ : فَإِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ خُلَفَاءَ الْأَنْبِيَاءِ أَعْلَمُ أُمَمِهِمْ ،
فَخَبِّرْنِي عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْنَ هُوَ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ ؟
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ .
فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : فَأَرَى الْأَرْضَ خَالِيَةً مِنْهُ وَأَرَاهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ ؟!
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا كَلَامُ الزَّنَادِقَةِ ! اغْرُبْ عَنِّي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ .
فَوَلَّى الْحِبْرُ مُتَعَجِّباً يَسْتَهْزِئُ بِالْإِسْلَامِ ، فَاسْتَقْبَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فَقَالَ لَهُ :
يَا يَهُودِيُّ ، قَدْ عَرَفْتُ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ وَمَا أُجِبْتَ بِهِ . وَإِنَّا نَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَيَّنَ الْأَيْنَ ، فَلَا أَيْنَ لَهُ ، وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَحْوِيَهُ مَكَانٌ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِغَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُجَاوَرَةٍ يُحِيطُ عِلْماً بِمَا فِيهَا ، وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ تَدْبِيرِهِ ، وَإِنِّي مُخْبِرُكَ بِمَا جَاءَ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِكُمْ يُصَدِّقُ مَا ذَكَرْتُهُ لَكَ ، فَإِنْ عَرَفْتَهُ أَتُؤْمِنُ بِهِ ؟
قَالَ الْيَهُودِيُّ : نَعَمْ .
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَلَسْتُمْ تَجِدُونَ فِي بَعْضِ كُتُبِكُمْ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِساً إِذْ جَاءَهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَشْرِقِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ قَالَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، ثُمَّ جَاءَهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَغْرِبِ فَقَالَ لَهُ مِنْ أَيْنَ جِئْتَ قَالَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَجَاءَهُ مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ قَدْ جِئْتُكَ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَجَاءَهُ مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ قَدْ جِئْتُكَ مِنَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ اسْمُهُ ، فَقَالَ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) :
﴿سُبْحَانَ مَنْ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ وَلَا يَكُونُ إِلَى مَكَانٍ أَقْرَبَ مِنْ مَكَانٍ﴾ .
فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّكَ أَحَقُّ بِمَقَامِ نَبِيِّكَ مِمَّنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ .
المصدر : (الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد : ج1, ص201.)
*
عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَنَّهُ قِيلَ لَهُ :
أَخْبِرْنِي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، يَحْمِلُ الْعَرْشَ أَمِ الْعَرْشُ يَحْمِلُهُ ؟
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَامِلُ الْعَرْشِ وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ .
فَقِيلَ لَهُ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ : ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ .
فَكَيْفَ قَالَ ذَلِكَ وَقُلْتَ إِنَّهُ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ؟
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : إِنَّ الْعَرْشَ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنْوَارٍ أَرْبَعَةٍ ، نُورٍ أَحْمَرَ مِنْهُ احْمَرَّتِ الْحُمْرَةُ ، وَنُورٍ أَخْضَرَ مِنْهُ اخْضَرَّتِ الْخُضْرَةُ ، وَنُورٍ أَصْفَرَ مِنْهُ اصْفَرَّتِ الصُّفْرَةُ ، وَنُورٍ أَبْيَضَ مِنْهُ ابْيَضَّ الْبَيَاضُ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي حَمَّلَهُ اللَّهُ الْحَمَلَةَ وَذَلِكَ نُورٌ مِنْ عَظَمَتِهِ ، فَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ أَبْصَرَ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ عَادَاهُ الْجَاهِلُونَ وَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ ابْتَغَى مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ خَلَائِقِهِ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ بِالْأَعْمَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَدْيَانِ الْمُشْتَبِهَةِ ، فَكُلُّ مَحْمُولٍ يَحْمِلُهُ اللَّهُ بِنُورِهِ وَعَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لِنَفْسِهِ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً ، فَكُلُّ شَيْءٍ مَحْمُولٌ وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْمُمْسِكُ لَهُمَا أَنْ تَزُولَا وَالْمُحِيطُ بِهِمَا مِنْ شَيْءٍ ، وَهُوَ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَنُورُ كُلِّ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً .
فَقِيلَ لَهُ : فَأَخْبِرْنِي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَيْنَ هُوَ ؟!
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : هُوَ هَاهُنَا وَهَاهُنَا ، وَفَوْقُ وَتَحْتُ وَمُحِيطٌ بِنَا وَمَعَنَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا﴾ . فَالْكُرْسِيُّ مُحِيطٌ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ . فَالَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ هُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ حَمَّلَهُمُ اللَّهُ عِلْمَهُ وَلَيْسَ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ شَيْءٌ خَلَقَ اللَّهُ فِي مَلَكُوتِهِ الَّذِي أَرَاهُ اللَّهُ أَصْفِيَاءَهُ وَأَرَاهُ خَلِيلَهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ . وَكَيْفَ يَحْمِلُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ اللَّهَ وَبِحَيَاتِهِ حَيِيَتْ قُلُوبُهُمْ وَبِنُورِهِ اهْتَدَوْا إِلَى مَعْرِفَتِهِ .
المصدر : (الكافي : ج1، ص129.)
*
عَنْ الْإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ :
خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْخُطْبَةِ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ :
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، صِفْ لَنَا رَبَّنَا مِثْلَ مَا نَرَاهُ عِيَاناً لِنَزْدَادَ لَهُ حُبّاً وَبِهِ مَعْرِفَةً .
فَغَضِبَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَنَادَى الصَّلَاةَ جَامِعَةً فَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَتَّى غَصَّ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَهُوَ مُغْضَبٌ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ثُمَّ قَالَ :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَالْجُمُودُ ، وَلَا يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَالْجُودُ ، إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ وَكُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ وَهُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ وَعَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَالْقِسَمِ . عِيَالُهُ الْخَلَائِقُ ، ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ وَنَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ وَالطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ ، وَلَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ .
الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ قَبْلَهُ ، وَالْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَهُ ، وَالرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ ، مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ ، وَلَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ ، وَلَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ وَضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَالْعِقْيَانِ وَنُثَارَةِ الدُّرِّ وَحَصِيدِ الْمَرْجَانِ ، مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ وَلَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ وَلَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ مَا لَا تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الْأَنَامِ ، لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ وَلَا يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ .
فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ . فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ وَلَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وَأَئِمَّةِ الْهُدَى (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) أَثَرُهُ فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ . وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ ، الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ ، فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً وَسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً .
فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ، هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ وَحَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ ، وَتَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ ، وَغَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ ، رَدَعَهَا وَهِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ ، فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ ، وَلَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِه ، الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ ، وَلَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ ، مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ ، وَعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ ، وَاعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ ، مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ ، وَأَعْلَامُ حِكْمَتِهِ ، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ .
فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ وَتَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ ، وَلَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ .
كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ وَنَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ ، وَجَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ وَقَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ .
وَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ ، وَالْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ . وَإِنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً ، وَلَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً .
المصدر : (نهج البلاغة : ص124. طبعة صبحي الصالح.)