الأعشى { صناجة العرب }هو : أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل بن بكر بن وائل من ربيعة ..
نشأ باليمامة ، في قرية تسمى { منفوحة } ، وهو المعروف بأعشى قيس ...
وهو من الطبقة الأولى من الشعراء ، من حيث الإجادة ، فهم يقولون بأن أشعر الناس :
امرؤ القيس إذا ركب ، وزهير إذا رغب ، والنابغة إذا رهب ، والأعشى إذا طرِب ....
وكان لشعره جَلَبَة في السمع ، وروعة في النفس ، وأثر في الناس ، وكان يغني شعره فسمي لذلك { صناجة العرب } .
كان يُعز بشعره ويُذل .. فما مدح قوما إلا ورفعهم ، وما هجا قوما إلا وضعهم .. وله قصة طريفة مشهورة مع المحلق وبناته .. تقول :
كان المحلق رجل من مغموري العرب وفقرائهم ، وكان أبا لثماني بنات عوانس ، لم يتقدم لخطبتهن أحد لمكان أبيهن من الخمول والفقر .. فاقترحت عليه امرأته وكانت امرأة عاقلة أن يضيف الأعشى .. عله يشيد بذكره ..
فأضافه .. ونحر له ناقة على فقر ..وقدم إليه الشراب واشتوى له من كبد الناقة وأطعمه من أطايبها ، فلما جرى فيه الشراب ، وأخذت منه الكأس .. سأله عن حاله وحال عياله .. فذكر له بناته ..
فقال الأعشى : كُفيتَ أمرهن .. ومضى فمدحه بقصيدة بليغة ..
وأنشدها في عُكاظ ..
تقول بعض أبياتها :
أرقتُ وما هذا السـُّهادُ المؤرقُ وما بي من سقمٍ وما بي معشقُ
فاجتمع الناس حوله يسمعون .. إلى أن قال :
نفى الذم عن آل المحلـق جفنةٌ كجـابيَةِ الشيخِ العراقي تفهَـقُ
( تفهق : تمتلأ )
ترى القومَ فيها شارعين وبينهم مع القوم ولدان من النسل دردق
( دردق : الأطفال )
لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرةٌ إلى ضوءِ نــارٍ باليفـاع تحرقُ
ترى الجود يجري ظاهرا فوق وجهه كمـا زان متن الهندوانـّي رونقُ
فما أتم القصيدة إلا والناس يتهافتون ويتوافدون إلى المحلَّـق يهنؤونه ، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه يخطبون بناته لمكان شعر الأعشى .. فلم تـُمسِ واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف ..
وكان الأعشى من أحد أمراء الشعر المتكسبين به ، القائلين في كل ضروبه ..
طاف بالبلاد .. ومر بأبواب الملوك يمدحهم ويستجديهم .. ثم وفد على بني عبد المدان ملوك نجران ، فأكرموا ثواءه ، وأجزلوا عطاءه ، واكتسب من الإختلاط بهم إدمان العقار ، والتأثر ببعض الأفكار ، فظهر ذلك في شعره .. ولا سيما وصف الخمر .
وطال عمر الأعشى .. حتى ابيضت عيناه من الكبر .. وسمع بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصنع في مدحه قصيدة ، وعزم على الرحيل إليه بالحجاز ..
تقول بعض أبياتها :
ألم تـَغتـَمِض عيناكَ ليلَةَ أرمــدا وبِتَّ كما باتَ السـَّليمُ المُسهـَّدا
وما ذاك من عِشقِ النـِّساءِ وإنـَّما تَناسَيتَ قبلَ اليومِ خُلـَّةَ مَهـدَدا
( ومهددا : صاحبة الأعشى )
ولكن أرى الدهرَ الذي هو خـائنٌ إذا أصلَحت كفـَّايَ عـاد فأفسدا
شبــابٌ وشِـيبٌ وافتِقارٌ وثروةٌ فللــه هذا الدهـرُ كيفَ تـردّدا
ومنها أيضا :
فآليتُ لا أرثي لهـا من كلالــة ولا من وجىً حتى تُلاقـي محمـدا
متى مـاتُناخي عند باب ابن هاشم تُراحى وتَلقـى من فواضلـهِ ندى
نبيٌّ يَـرى مـالا يَـرون وذكـرُهُ أغـاد لعمري في البـلاد وأنجـدا
لَـه صـدقـات مـاتغِيب ونائلٌ وليسَ عطـاء اليوم يمنعـهُ غـدا
ورحل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فسأله أبو سفيان عن وجهته .. فقال أردتُ محمدا ..
قال : إنه يحرم عليكم الخمر والزنا والقمار ( ولأنه يعلم مدى ولوعه بها ) ..
فرد عليه الأعشى قائلا : أما الخمر فقد قضيت منها وطرا ، وأما الزنا فقد تركني ولم أتركه ، وأما القمار فلعلي أصيب منه عوضا.
فلما سمع أبو سفيان بذلك .. حرض قومَه على إرضائِهِ بالرجوع خوفا من أن يُسلم فينصر رسول الله بشعره على قريش .. وقال لهم أبو سفبان : والله لئِن أتى محمدا أو تبِعَه لَيُضرِمَنّ عليكم نيران العرب بشعره ، فاجمعوا له مئة من الإبل ، فجمعوا له مائة ناقة حمراء ، وأخذها الأعشى ورجع ، حتى إذا دنا من اليمامة سقط من فوق ناقته فدقت عنقه ومات .
له قصيدة من المعلقات العشر .. يقول أولها :
ودِّع هريرة إن الرَّكبَ مرتحل وهل تُطيقُ وداعـًا أيـُّها الرجلُ
وكانت وفاته عام 629 للميلاد .
من قصائده قصيدة أعجبتني جدا .. أحببت أن أكتبها مع شرح بسيط لما يصعب من كلماتها ، وهي من بحر المتقارب :
لَعَمرُكَ ماطول هذا الزَّمَن على المرءِ إلا عنـاءٌ مُعَنْ
يظَلُّ رجيمـًا لِرَيبِ المَنونِ وللسُقمِ في أهلـهِ والحَزَن
والرجيم : الملعون أو من رجمه ، أي رماه بالحجارة ، والمقصود هنا أنه مستهدف للموت والأمراض والأحزان .
وريب المنون : هو صرفُ الدهر وتقلبه ومصائبه .
وهالِكِ أهلٍ يُجـِنــُّونَهُ كـآخَرَ في قفرَةٍ لـم يُجَـنْ
يُجنونه : يسترونه في الأرض ويدفنونه .
وما إن أرى الدهر في صـرفِهِ يُغـادِرُ من شـارِخٍ أو يَفَنْ
الشارخ : الشاب ، واليفن : الشيخ الكبير - يريد أن صروف الدهر ونوائبه لا تترك شابا أو شيخا كبيرا .
فَهل يَمنـَعَنـِّي ارتيادي البلا دَ مِن حَذَرِ الموتِ أن يأتِيَنْ
أليسَ أخُـو الموتِ مستَوثِقـًا عليَّ وإن قلتُ قد أنسَـأنْ
وأنسأهُ : أخره وأجـَّلَه . يقول أن الموت مستوثق منه ، ولو أجله .. فأجله إلى حين .
علـيَّ رقيبٌ لـهُ حـافِـظٌ فقُل في امريءٍ غَلِقٍ مُرتـَهَنْ
غَلِقَ الرهن : استحقه المرتهن ، وذلك إذا لم يفتك في الوقت المشروط - يقول : فلا تغيب عني عينه ، فأنا بين يديه رهين .
أزالَ أُذينة عن مُـلكِـــهِ وأخرَجَ من حصنِـهِ ذا يَـزن
وخـانَ النعيمُ أبـا مـالـكٍ وأيُّ امريءٍ لم يَخُنـهُ الزَّمـَن
أي كان يظن النعيم دائم ، ولكنه دأب الزمان الخائن .
أفـادَ الملُـوكَ فـأفناهُـمُ وأخـرَجَ من بيتِـهِ ذا حَـزَن
أفاد : أهلك . يريد أن الزمن يهلك الملوك ويفنيهم ويُخرج الناس عن مستقرهم في دار الشجون .
ثم يتكلم عن عهد شبابه الماضي فيقول :
وعهـدُ الشـَّبابِ ولَذَّاتِـهِ فإن يَكُ ذلكَ قد نـُتـَّدَنْ
تودَّنَ الجلد : لان ، وَدنَهُ وودَّنَهُ واتدنه : أي بلـَّهُ ونقعهُ .
والأودنُ : الناعم . فهو يتحسر على عهد النعيم واللذة .
وطاوَعتُ ذا الحِلمِ فاقتادَني وقد كُنتُ أمنَعُ منهُ الرَّسـَن
أي كانه كان وعرا لا يلين ، ولكنه مع الأيام طاوع الناصح فأسلم له القياد .
وعاصَيتُ قلبيَ بعدَ الصـِّبَى وأمسَى وما إن لهُ من شَجَنْ
والصـِّبَى : الشـَّوق ، والشجن : الحزن والهم . أي أمسى قلبه فارغا لا تحركه الأشجان .
فقد أشرَبُ الرَّاحَ قد تعلميـــــــنَ يومَ المُقـامِ ويومَ الظـَّعَن
والظعن : الرحيل والسفر .
ثم انتقل إلى وصف رحلته إلى ممدوحه قيس بن معدِ يكرب الكندي ووصف ناقته ..
فقال :
وبيداءَ قَفرٍ كَبُردِ السـَّديرِ مَشـارِبُها داثِـراتٌ أُجُـنْ
البرد : الثوب المخطط ، والسدير : أرض باليمن ، والمشارب : المياه والآبار التي يشرب منها المسافر ، ومعنى داثرات : أي مطموسة بالرمال ، وأُجُن : جمع آجنٍ ، وهو الماء المتغير اللون والطعم لركوده .
يقول أنه يقطع صحراء جرداء كأنها ثوب يمني مخطط ومياهها راكدة مطموسة الآبار .
قَطَعتُ إذا خـبَّ رَيعانـُها بِدَوسـَرَةٍ جَسـرَةٍ كالفَدَن
الريعُ والريعان : اضطراب السراب . والدوسرة : الناقة الضخمة . والجسرة : الضخمة . والفَدَن : القصر .
يقول : قصطت هذه الصحراء الجرداء القفرة حين توسطت الشمس السماء ، وخفق السراب ، وكنت على ناقة ضخمة كأنها قصر كبير جبار .
بِحِقـَّـتِها حُبِسَت في اللُّــجينِ حتـَّى السـَّديسُ لها قد أسـَنّ
بحقتها : إي سنة كاملة - والحقة : الحق والواجب - وأتت الناقة على حقها : أي على وقت ضرابها . واللجين : نوع من علف الإبل يدق فيه الخبط حتى يتلزج ثم يُخلط بالدقيق أو الشعير . أسنَّ السديس : أي نبتت أسنانه .
يقول : أن ناقته حُبست حولا كاملا تعلف اللجين حتى اشتد صغيرها ونبتت أسنانه .
وطالَ السـَّنـامُ على جَبلَةٍ كخَلقـاءَ من هَضـَباتِ الدَّجَنْ
والجبلة : الضخمة العظيمة الخلق . خلقاء : ملساء . والدجن : المطر .
يقول : أن سنامها المليء بالشحم ضخم .. يطول فوقها كالهيكل العظيم .. وكأنه صخرة كبيرة في هضبة غزيرة ألأمطار .
فأفنَيتُها وتَعـــالَلْـتـُـها على صَحـصـَحٍ كرداءِ الرَّدَن
تعاللتها : أي أخذت علالتها ، والعلالة : البقية من كل شيء . والصحصح : المستوي من الأرض . والردن : الحرير .
يقول : لقد استنفذتُ عزمها ونشاطها فوق صحراء جرداء مستوية وناعمة كرداء من حرير .
تَيَمـَّمتُ قيسـًا وكَـم دونـَهُ من الأرضِ من مَهمَهٍ ذي شَزَنْ
ذي شزن : الغليظ ، والشزن : الغلظ . يقول بيني وبينه أرض وعرة غليظة .
ومِن شانيءٍ كاسِـفٍ وجهُـهُ إذا ما انتَـسَبـتُ لهُ أنكَـرَنْ
والشنآن : البغض ، والشانيء : المُبغض . والكاسف الوجه : العابس المتغير .
يقول : أيضا بيني وبينه مبغضون يتجاهلون نسبي إذا انتسبت لهم من بغضهم لي .
ومِن آجـِنٍ أولَجَتـهُ الجَنـو بُ دِمنَـةَ أعطـانِهِ فـاندَفَن
والآجن : الماء الراكد . والجَنوب : ريح . والدمنة : البعر وآثار الدار . والأعطان : منازل الإبل .
يقول : وبيني وبينه آبار ماء راكدة آجنة .. أسفَت عليها الريح البعر والتراب حتى دفنتها .
وجـارٍ أجـاوِرُهُ إذ شَتَـو ت غيـرِ أميـنٍ ولا مُؤتـَمَـن
والجار هنا : أراد به الذئب فهو جاره في الشتاء في هذه الرحلة الطويلة .
ثم بدأ بالمدح لِمَن هو ذاهب لهم .. رهط قيس بن معد يكرب .. إلى أن يصل إلى ممدحوحه فيمدحه ليقول :
ولكـن ربي كفـى غُربتي بحمـدِ الإلـَهِ فقـد بلـَّغَنْ
أخـا ثِقَـةٍ عاليـا كعبُـه جزيـلَ العطـاءِ كريمَ المِنَـن
كريمـًا شَمـائِلُـهُ من بني معـاوية الأكرمينَ السـُّـنَن
والسنن : الوجوه والطبائع .
ويمدح ويمدح ويمدح إلى أن يقول :
فهذا الثـَّـناءُ وإنـِّي امرؤٌ إليكَ بِعَمـدٍ قَطَعـتُ القَرَن
وكنتُ امرءً زمنـًا بالعِراق عفيفَ المُنـاخِ طويلَ التـَّغَنّْ
والمناخ : محل الإقامة . والتغني : الإستغناء . أي أنه عاش عفيفا في منزله مستغنيا عن الناس .
ونُـبِّـئـتُ قيسـًا ولَـم أبلُـهُ كمـا زَعَموا خيرَ أهـل اليَمَن
رفيع الوِسـادِ ، طويـلَ النـِّجـا د ضخمِ الدَّسِيعَةِ ، رحبَ العَطَن
رفيع الوساد : كناية عن سمو مكانته . طويل النجاد : كناية عن طول قامته وكانت مما يفخر به العرب ، والنجاد : حمائل السيف . ضخم الدسيعة : يكني بذلك عن كرمه والدسيعة : هي الجفنة الكبيرة . ورحب العطن : أي مناخه حول مورد الماء .
فجِئتُـكَ مُرتادَ مـا خَبـَّروا ولولا الذِّي خبَّـروا لم تـَرَنْ
فـلا تَحرِمَنـِّي نَدَاكَ الجزيـلَ فإنِّـي امرؤٌ قَبلَكُـم لَم أُهَنْ